الثقافي

خطيبي: الإنترنت سرّعت من تحولات المجتمع الجزائري

عاد الكاتب إلى أحداث أكتوبر 1988 لافتا إلى أن الجزائر ثورة شعبية ضد النظام

تحدث الكاتب والمترجم سعيد خطيبي في مقال حديث له عن فضل الأنترنت في تسريع تحولات المجتمع الجزائري، وقفزت به من ركود مستدام إلى حراك لا يهدأ والدور الكبير الذي لعبه ولا زال في إثارة الأسئلة الحرجة وتوسيع النقاشات وفي تقليص الفوارق بين طبقات اجتماعية، وفي تقريب الآراء من بعضها البعض.

وجاء في المقال: “بفضل الأنترنت، تحرر الجزائري، شيئاً فشيئاً، من بقايا الزمن العشائري، ويكاد ينفض عن نفسه ما تبقى منه. صار أكثر قرباً من الاختلاف، وتقبلاً للآخر وللاستثناء. لم تكن الأنترنت فقط سبباً في تعبئة الناس للخروج ضد الحكم الفاسد، بل أيضاً في إكساب مستخدميها حرية فردية، شعوراً غير مخادع بأنهم يمتلكون مصيرهم بين أيديهم. إنها أيضاً تتجه نحو صناعة هوية جديدة، لم يعد الجزائري يعرف نفسه بحسب نسبه أو عرقه أو ديانته، بل أيضاً بحسب علاقته بالأنترنت، فإذا محت فوارق اجتماعية، فهناك فوارق تكنولوجيا تتشكل، في الظل، ولا مساواة بين واحد وآخر، سوى اعتماد على مقدرتهم في المناورة وفي تطويع الأنترنت لصالحهم”.

وتابع الكاتب مثنيا على الواقع الافتراضي: “لا ننفي أن من أسباب نجاح الحراك الشعبي، في الجزائر، وفي حفاظه على سلميته وتقدمه في فرض مطالبه، هو استخدام الأنترنت وانتشارها، وهذا أمر يُحيلنا إلى سبب آخر هو تطور التعليم (ولا نقصد جودته)، وإتاحته للأجيال السابقة، ما أفرز جيلاً متعلماً، يستخدم ما تجهله السلطة الطاعنة في السن، للتخلص منها، لكن الجزائري لم يكتف بعتبة أولى، في التعلم في مدرسة حكومية، بل يواصل شغفه في الأنترنت، في تحويلها إلى مدرسة جمهورية، مفتوحة وتستجيب للرغبات بتنوعها.

ففي سنوات قليلة ماضية، ارتفعت أعداد المواقع الإلكترونية، في جلها إخبارية، لكن كثيراً منها تعليمية وثقافية، ولم يعد الشباب ينتظرون الاطلاع على ما يحصل في بلدهم من نشرات التلفزيون، ولا يتكئون على الروايات الرسمية في فهم تاريخهم، بل يغرفون من الأنترنت ما يودون الوصول إليه، بدون المرور على حرس الأخلاق وبدون الاصطدام برقابة.

لقد نضجت نخبة جديدة، في هذا الفضاء، ولن يكون – مستقبلاً- ممكنا أن نختصر وصف “مثقفين” فقط على مجموعة أفراد ينتجون أفكاراً مكتوبة، ومنخرطين في القضايا العامة، بل سنجد أيضاً مثقفي الأنترنت؛ إبداعهم في مقدرتهم على تحويل هذا الفضاء من العام إلى الخاص، ينشرون منه أفكارهم، ويلعبون دوراً في الرفع من إيقاع التغيرات التي تطوق المجتمع الذي يعيشون فيه. إنها أنتلجنسيا الأنترنت، التي لا تقل قيمة عن الأنتلجنسيا الكلاسيكية، التي نعرفها مسبقاً”.

واستطرد موضحا:”كانت لحظة فارقة، ترتبت عنها تغيرات جوهرية في البلد، وكان يمكن لها أن تكون لحظة تحول أشمل في شمال إفريقيا، لكن بعد مرور ثلاثة عقود، بالكاد نعثر على مراجع أو وثائق جادة تذكرنا في تلك الحقبة، وتدوّن ما حصل فعلاً. لقد قامت حينها ثورة بلا تأريخ. ثورة تداولتها الألسن وحملتها ذاكرة مثقوبة للذين وُلدوا من بعدها. نتذكر اليوم تاريخها وهوامش صغيرة من تفصيلاتها، لكننا نجهل دوافعها الحقيقية ومجرياتها خارج المدن الكبرى. وهو أمر ساعد النظام في توطين النسيان ومواصلة سياساته العمياء، في الحكم بالعصا والرصاص. هذا ما حصل في الماضي ولن يتكرر الآن، فالأنترنت هي القاموس التاريخي الذي ندوّن فيه حراك 2019، هي الكتاب الذي لن تغلق دفتاه ولا يتوقف عن استثارتنا كي لا نقطع حبل الوريد مع حاضرنا هذا. إن أنتلجنسيا الأنترنت لن تكرر أخطاء من سبقوها، لن تنتظر صحائف تنشر، وأخرى تضيع في دواليب البيروقراطية، أو تصدر مبتورة من فصول مهمة، لأنها تكتب يوميات الحراك الشعبي، ساعة تلو الأخرى، مع شهادات ساخنة، على رعونتها أحيانًا، هي الأرشيف الذي سيظل محفوظاً، بعد ثلاثين سنة من الآن ويزيد”.

وانطلاقا من هذا المعطى التاريخي تحولت الأنترنت إلى سلاح، إلى معركة بين السلطة والشعب وتسير، مع الوقت، إلى تغيير العادات الاجتماعية وأشكال التعبير الثقافية، حسب خطيبي الذي شدد على فضل الفضاء الافتراضي في إشاعة الحريات الفردية قائلا:”إن مستعمليه يكتبون أو ينشرون صوراً أو فيديوهات، في لحظة وقوعها، ويساعدهم في ذلك أن الفضاء الافتراضي يحتمل المجاهيل، ولا يفرض عليهم الظهور بهوياتهم الحقيقية، لذلك فكثير من الحسابات على وسائط التواصل لا نعرف أصحابها، ولكن يهمنا محتواها، وكلما توارى الشخص عن الأنظار، وأخفى اسمه أو مكان وجوده فهو يزيد من شعوره بالحرية، وفي كثير من الحالات يهمنا ما يُنشر وليس صاحب النشر، مع أن هذا الأمر أيضاً له انعكاسات مؤثرة، ففي لحظة ضعف النظام الجزائري، وتهاويه في الأسابيع الماضية، لاحظنا أنه يستعين بحسابات مجهولة الأفراد بغرض تشويه سمعة ناشطين، أو تحييد الحراك الشعبي عن سكته. في الغالب يلجأ مستخدم الأنترنت إلى إخفاء هويته كي لا يتحمل مسؤولية نشاطاته، هذا أمر ينجم عنه مساس بحريات الأفراد، لكنه مع الوقت يوضح لنا صورة ما يحصل، بدون مقص أو خوف”.

وختم كاتب المقال: “الأنترنت التي أفرزت أبطالها ونجومها، والتي تتجه نحو صناعة أنتلجنسيا جديدة، متحررة من الإكراهات التي شهدها سابقوه، هي مختبر مفتوح في الجزائر، درباً نسير عليه من أجل إنجاح عصر الأنوار الجديد، وتحرير اللسان والعقل من الرقيب. لقد حررت الأنترنت الإبداع أيضاً، فكثير من الكتاب والموسيقيين ينشطون على مواقع افتراضية توفر لهم قاعدة في بلوغ متلقين، بأقل تكاليف، وستكون مع الوقت هي الواجهة التي تحدد خيارات القراء والمستمعين، كما ستكون سبباً في توجيه الآراء وفي صناعة القرار، مع ذلك لا ننسى أن السلطة لا تزال لها يد على هذا الفضاء، لقد استفاقت من قيلولتها، ولن تبقى في موقع المتفرج”.

 

من نفس القسم الثقافي