الثقافي
رحلة إرنست رينان إلى الجليل.. أفضل مكان لعيش الفلاسفة
ستشكل الرحلة الخطوط العريضة لأطروحته حول حياة المسيح ولدراساته في الأركيوليوجيا الدينية
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 14 أفريل 2019
في سنة 1860 سيقوم المفكر الفرنسي إرنست رينان (1823/ 1892) بـ رحلة إلى لبنان وسورية، على رأس بعثة للحفريات، مهمتها البحث في الآثار المسيحية، وهذه الرحلة هي التي ستشكّل الخطوط العريضة لأطروحته حول حياة المسيح ولعدد من الدراسات والأبحاث التي قام بها في مجال الأركيوليوجيا الدينية، كما أنها ستدفعه إلى زيارة القدس والكتابة عن انطباعاته حول المنطقة، الضاجّة بالشواهد الدينية، الإسلامية، والمسيحية واليهودية.
وقد أصدر في سنة 1864 كتابه "حياة المسيح"، وهو الكتاب الذي بسط فيها ملاحظاته حول المسيحية، ما أثار عليه غضب الكنيسة، وفي كل الأحوال، لقد وصل الأمر إلى تكفيره من قبل البابا، لكن ذلك لم يوقفه رغم الإجراءات التأديبية التي تعرض لها، وفي سنة 1869 سيقوم برحلة أطول وأشمل إلى مصر واليونان وسورية وتركيا وصولاً إلى بلدان الشرق الأقصى، متتبعاً الخيط الناظم للديانات التوحيدية: الإسلامية والمسيحية واليهودية، ما سيفجر سجالاً أكبر طاول منتجه الفكري.
لكن رغم الإبعاد المؤقت من المناصب الأكاديمية ومن التدريس في الكوليج دو فرانس، وفشله في الانتخابات النيابية، فإنه سينال عضوية الأكاديمية الفرنسية عام 1878 ليدخل إلى كابيتول الخالدين.لا يسمح المجال هنا بالحديث عن أثر إرنست رينان الفكري ولا إسهاماته الكبيرة في مجال الدراسات الدينية والتاريخية، أو أعماله الأدبية الأخرى ودراسته الرائدة حول ابن رشد، في زمن وجد فيه مع مفكرين كبار، أمثال عالم الاجتماع إيميل دوركايم، والفيلسوف أوغست كونت، وغيرهما. ولكن لا بد من تسجيل الرجة القوية التي أحدثها الرجل في مجال الدراسات الدينية واقترابه من موضوعات شديدة الحساسية، كانت الكنيسة في ذلك الوقت تعتبرها خطاً أحمر، ولكن يبدو أن إرنست الشاب قد أفسدته الفلسفة التي التحق بأقسامها سنة 1840.
ولم تكن الفلسفة هي التي أوقدت نيران الشكوك في نفس إرنست رينان، بل كان علم الفيلولوجيا هو الذي طرح عليه أشد الأسئلة حيرة. ولم يكن هذا التوسع المعرفي إلا حصيلة رينان الشاب، ومثابرته، كما أن رينان الشيخ، لم يكن رجلاً متهالكاً منعزلاً، فحتى وهو يتجاوز السبعين من عمره، كان بصدد إكمال دراسته التي صدرت في مجلدات "أصول المسيحية".
وغير هذا، فنظرته الدونية إلى الجنس السامي، وتفضيله الجنس الآري، باعتبار أن الأول غير قادر على الارتقاء إلى مرتبة الفعل العقلي، وأن قوة الثاني في ميله إلى العقل العلمي، جرت عليها انتقادات كثيرة، خصوصاً أنه حاول التقليل من شأن الحضارة العربية الإسلامية.
لا يمكن فصل كتب إرنست رينان الرحلية عن مشروعه البحثي الصميمي حول المسيحية، ولذلك جاءت زيارته إلى بلاد الشام، وترأسه لفرقة بحث أثري، ضمن هذا السياق. وقد كانت زيارته إلى فلسطين والأراضي المقدسة أمراً ضرورياً للاعتبار والتفكر، ولا نعدم بالتالي الكثير من التعليقات النفاذة التي تختصر رؤيته إلى الدين بشكل عام.وهو من هذه الناحية يختلف أشد الاختلاف عن الرحالة الآخرين، الذين هرعوا إلى المشرق العربي مسحورين أو باحثين عن أشياء أخرى، أو مسخرين في إطار بعثات استكشافية همها الأول والأخير رصد استخباري للمنطقة، التي ستشهد بعد ذلك أحداثاً كبيرة سعت إلى تفتيتها وتغيير وجه تاريخها إلى الأبد.
يكتب رينان، في أثناء وصوله إلى الناصرة "لم تزل الناصرة حتى يومنا هذا مكاناً رائعاً للإقامة، لعلها المكان الوحيد في فلسطين الذي تشعر فيه الروح بأنها تحررت من الثقل الذي يعتصرها وسط هذا القنوط الذي لا مثيل له، فالناس في هذا المكان ودودون وبشوشون، والحدائق فيها يانعة الخضرة، وقد وضع أنطوان مارتير في نهاية القرن السادس لوحة ساخرة لخصوبة ما يحيط بالمكان، مقارناً إياها بالجنة".