الثقافي
فيلم “عند منحدرات التلال” الصبر مفتاح الفرج
يعرض عبد الله باديس مزاج الجزائريين
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 09 أفريل 2019
في فيلمه الوثائقي الأخير “عند منحدرات التلال” 2018، (100 دقيقة)، يعرض عبد الله باديس مزاج الجزائريين. يبدأ بكهلٍ في قاع اليأس، ينقل عدوى يأسه إلى الشبان الذين يحاورونه: “لا حلم ولا فرصة في الجزائر. أبدًا لن يُعطيكم المهيمنون على الاقتصاد والسياسة فرصة. إذا أعطوكم فرصة، فسيكون ذلك على حساب مصالحهم”.
تتوالى الشهادات لإثبات هذه الأطروحة في الوثائقي، الذي نجا من الملل بفضل استخدام أسلوب “فيلم على الطريق”. وثائقي أشبه بروبورتاج، فيه شاب يستجوب عشرات الأشخاص. لم يُركِّز المخرج على شخص معين. 3 دقائق على الأكثر لكلّ واحدٍ منهم. رغم تعدّد المتدخلين، تضمن وحدة الموضوع وآنيّته حيويةَ الفيلم.
استجوب المخرج شيوخًا يسترجعون الماضي الذهبي، وشبانًا يتمنّون فتح الحدود المغربية ـ الجزائرية وهم يُهرِّبون البنزين مقابل حلويات. شبان يقفون على الأرصفة، أو يستندون إلى الجدران، يتأمّلون العابرين، ويسردون أحلام يقظة. تبدأ جملهم بأداة تمنٍّ. بالنسبة إليهم، الغربة بديل حاسم. تتكرّر مقاطع قصيرة من أغانٍ كثيرة، محورها البحر والغربة. أحد تلك المقاطع، في وداع وهران: “القلب الذي يحبّ وهران يستحقّ الكيّ”. حتى العجوز تتمنّى إرسال أولادها إلى الخارج، وحينها فقط تزور مكّة.
يُثمر تأجيل العيش صراع أجيال بين شيوخ يعملون وشبان ينتظرون المجهول. يُقال شعرٌ عاميٌّ يهجو الشيوخُ فيه الشبان الكسالى. شبان لديهم هاجس وحيد: مُغادرة البلد.
يذهب المخرج إلى القرى للقاء أطفال ومراهقين وشبان وكهول. يريد تقديم مقطع طوبوغرافي عن المزاج الجزائري اليوم. مُداخلات الشيوخ أعمق وأقسى، وفيها مراجعة ساخرة للسردية الرسمية عن الثورة المجيدة، وامتيازات المُجاهد بعد الثورة، وأزمة 1988، والعشرية السوداء، وحكم عبد العزيز بوتفليقة، والفساد المُعشِّش في بنية الدولة.
لتشكيل بورتريه مرحلة، يبدو أن عبد الله باديس صَوَّر ساعات طويلة انتقى منها اللقطات الأكثر عفوية ودلالة. الاستجوابات إخبارية وتفسيرية لإثبات مسألة واحدة: جزائر الزمن الميت. يناقش المستَجْوَبون الماضي والمستقبل. لا أحد منهم لديه برنامج، هنا والآن. للجميع تمنيات. في الحوارات كلّها استرجاع زمن منتهٍ. بسبب الزمن الميت، الحياة مؤجّلة. هذا ينكشف بشدّة مع الصمت الذي يلي تلك الحوارات. نظرات تائهة، وصمت.
الغريب أن نبرة الشيوخ أحدّ، وأكثر وعيًا. إنهم كحال بحّار في الـ81 من عمره، محروم من مركب صيد لأنه متقاعد. يشتكي العجوز من المافيا الحاكمة، ومن الذين يدّعون الوطنية والإسلام وينهبون الجزائر. يتحدّث بحرقة، حتى يكاد يبكي، فيُعانقه الشاب، الذي يؤطّر الوثائقي، كي يخفّف توتّره.يُثْبت أنْ لا جدوى من الكلام. في الزمن الميت، يمكن للفرد سماع نبض قلبه.
ما هو الزمن الميت؟ هو زمن لا يجري فيه شيء، ولا يُنتظر حدوث شيء. انتظارٌ رخو، وتحديق في المُكرَّر. ما الذي يتكرّر؟ يُخصِّص الفرد جهده لتوفير حاجات آنية، من أكل وتسلية. لا أفق ولا حلم ولا أمل. مع الانتظار، تتأسّف الأم على بلدٍ لا يجد من يخدمه. يولد الزمن الميت من التكرار: تكرار الكلمات وتكرار الشكاوى وتكرار الأحاسيس. لا مشروع ينجح في البلد إنْ لم يكن لديك “واسطة” وفساد. لتدعيم هذا بحدث من اللحظة الراهنة، يرفع مُتظاهر جزائري (مارس 2019) لافتة مكتوباً عليها: “عمري 30 سنة، عشرية سوداء و20 سنة بوتفليقة”.
الفيلم محاولة لتفسير وضع الجزائر. كلّ مرة، يتكرّر تعبير “الصبر مفتاح الفرج” لكلّ عقد. الصبر، أي المزيد من الزمن الميت. في هذا السياق، ليس صدفة أن تمرّ كاميرا عبد الله باديس في أماكن كثيرة تحمل أسماء الأولياء، ثم تتوقّف مُطوَّلاً عند ضريح ولي صالح. هناك أناسٌ يتشوفون لقبر الولي الصالح، أكثر مما يتشوفون للحكومة في العاصمة الجزائر. هنا، يعطي الفيلم مساحة كافية للتعرّف على شيخ الضريح، وهو أسمن مَنْ في الفيلم. يتحدّث بطمأنينة، وهو واثق بإمكانية أن تكون الفاتحة والدعاء حلًّا للمشاكل. بالنسبة إليه، الاستعمار اختبارٌ ربّاني للشعب. يعتبر أن لكلّ إنسان قرينًا، إمّا جِنّاً وإما شيطاناً. يدعو بالنصر على الكافرين، لا على البؤس المحلي.
يُنظِّر الشيخ للنية الحسنة المثمرة مستقبلاً، ويحاول استقطاب الشبان. أمنية المستقبل: الجنة. طبعًا، تقع الجنّة بعيدًا عن الجزائر. لهذا صدى. في آخر الفيلم، يُمسك الشاب، الذي تتابعه الكاميرا مستجوبًا شخصيات الوثائقي، رأسَه بين أصابعه، وهو خاشع. تسيل دموعه، لأن الضريح يُقدِّم أجوبة وجدانية عن بؤس الزمن الميت. بعد منتصف عشرينياتهم، يعود الشبان الغاضبون إلى حظيرة شيخ الزاوية، مؤقّتًا.