الثقافي
حماية اللغة العربيّة بين الهاجس الوطنيّ والرّؤية القوميّة
قرابة 96% من لغاتِ العالم يتداولها أقلّ من 4% من سكّان هذا الكوكب، وهي في أكثرها لغاتٌ شفويّة خاصّة، ليست لها رموز كتابيّة
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 27 فيفري 2019
انتظمت البلدانَ العربيّة في آخر عقدين هواجسُ تقنين حماية اللغة العربيّة، فصدر قانونٌ لحمايتها سنة 2015 في الأردن، ومارتْ مصر بقانون شبيه منذ 1982 لم يتحقّق منه شيء، ثمّ قدّم مجمع اللغة العربيّة قانونًا لحماية اللغة العربيّة سنة 2017 طُوِيَ في الأدراج، وما زالت الساحة المصريّة تشهد مبادرات لتفعيل قانون كهذا من دون جدوى. وكذلك الأمر في الجزائر التي أصدرت مراسيم رئاسيّة متعاقبة منذ سنة 1966، حتّى إنشاء المجلس الأعلى للغة العربيّة سنة 1996، وواجه قانون تعميم اللغة العربيّة فيها انتكاساتٍ عديدةً من جماعات الضّغط الفرانكوفونيّة بعد تجميد العمل به فور صدوره سنة 1992، وصدر في تونس قانون مشابه سنة 2014 بعد إنشاء جمعية تنمية اللغة العربية وحمايتها سنة 2011، وأُنشئَت في المغرب جمعيّة لحماية اللغة العربية سنة 2007، والائتلاف الوطنيّ من أجل اللغة العربيّة في المغرب، وظلّ قانون حماية اللغة العربيّة فيها قيد النّظر والنّقاش حتّى الآن... وأحدثُ قوانين حماية اللغة العربيّة صدورًا هو القانون القطريُّ الذي صدرَ ضمن المرسوم الأميريّ رقم 7 مفتَتَح سنة 2019.
• انقراض اللّغات
وضعت منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (يونسكو) خمسة معايير لتصنيف اللغات في العالم، تتدرّجُ من تعرُّض لغة ما للخطر إلى إقرار اندثار عددٍ من اللّغات. أوّلها: أن تكون لغة معرّضة للخطر؛ وهي التي يتحدّث بها معظم الأطفال لكن ضمن نطاقٍ ضيّقٍ كأن يتعاملوا بها في حدود البيت مثلاً. وثانيها: أن تكون لغةً مهدّدةً بالانقراض فعلاً؛ وهي تلك التي لم يعد الأطفال يتعلمونها في المنزل، على الرغم من أنها لغتهم الأم. وثالثها: أن تكون لغةً معرّضةً للانقراض بشدة؛ وهي التي يتحدث بها الأجداد والأجيال القديمة، ومع أن جيل الأبوين قد يفهمها، فإنهما لا يتحدثان بها مع أطفالهما أو فيما بينهما. ورابعها: أن تكون اللغة معرّضةً للانقراض بشكل كبيرٍ؛ وهي عندما يكون أصغر المتحدثين بها هم الأجداد وكبار السن، لكن حديثهم بها يكون في أوقاتٍ وجيزةٍ، أو نادرًا ما يتحدثون بها. وآخرها: أن تكون لغةً مندثرةً؛ وهي التي لم يعد يتحدث بها أحد.
وتنضافُ إليها معاييرُ أُخرى تفصيليَّة/ تفضيليَّة لبقاء اللغاتِ، أو تعرُّضها لخطر الانقراض، منها عدد النّاطقين باللغة؛ إذ يُحدَّد العدد الأدنى لبقاء لغةٍ من زوالها بعدد متكلّمين لا يقلّ عن
"قرابة 96% من لغاتِ العالم يتداولها أقلّ من 4% من سكّان هذا الكوكب، وهي في أكثرها لغاتٌ شفويّة خاصّة، ليست لها رموز كتابيّة" مائة ألفٍ، ويُضاعِف فرصَها في البقاءِ عوامل أساسيّة، منها: أن تكون مكتوبةً، ومستعملةً في المعاملات والتّعليم، وأن تكون من اللغاتِ التي يُتَرجَمُ منها وإليها، ولها مساحتُها على شبكة الإنترنت، وذات قابليَّة للبحث والمعالجة الحاسوبيّة، وتتوفّر على مصداقيّةٍ في كتابة البحوث العلميّة ونشرها، فضلًا عن استخدامها في الإعلام المرئيّ والمسموع، والمال والأعمال.
واللّافتُ في قراءة أطلس اللُّغاتِ المهدّدة بخطر الانقراضِ أنّ قرابة 96% من لغاتِ العالم يتداولُها أقلّ من 4% من سكّان هذا الكوكب، وهي في أكثرها لغاتٌ شفويّة خاصّة، ليست لها رموز كتابيّة، ولا تستخدم في التّعليم والإعلام، ولا يُترجَم منها وإليها، فاللغات الدّاخلةُ في هذا البابِ (التّرجمة) لا تتجاوز 60 لغةً، تقع العربيّة في المرتبة الثّامنة عشرة منها. والمثير أنّ نحو 20% من لغات العالم يتداولُها عدد متكلّمين يقدّر بعشرات الملايين من السكّان في عدّة بلدان، أي إنّها عابرة لمناطقها، في حين أنّ نحو 80% من لغات العالم تمثّل لغاتٍ مستوطنةً، أي إنّ كُلًّا منها محصورةُ الاستعمالِ في بلدٍ واحدٍ لا تتجاوز حدودَه.
وفيما قدّرت الموسوعة الإنكليزيّة (Dorling Kindersley- London, 1997) أنّ قرابة نصف سكّان العالم مع نهايات القرن العشرين كانوا يستخدمون إحدى ثماني لغاتٍ هي الأكثر استعمالًا على ظهر الكوكب: الصّينيّة (1.2 مليار)، الإنكليزية (487 مليونًا)، الهنديّة (437 مليونًا)، الإسبانية (392 مليونًا)، الروسيّة (294 مليونًا)، العربيّة (225 مليونًا)، البرتغالية (184 مليونًا)، الفرنسيّة (125 مليونًا). فقد احتلَّت العربيَّةُ المرتبة السّادسة عالميًّا من حيث عدد النّاطقين بها، مع ضرورة التّحوّط لهذه الأرقام؛ إذ إنّ أكثر النّاطقين بالعربيّة يستعملون لهجاتهم المحكيّة في وجوه نشاطاتهم الحياتيّة.
وتتنبّأ تقارير عدّة بأنّ 50% إلى 90% من اللغاتِ التي يتكلّم بها سكّان الأرض ستكون معرّضةً للانقراض في هذا القرن الحادي والعشرين، ففي البرازيل مثلًا ماتت 540 لغةً من لغات السكّان الأصليّين (75% من إجماليّ عدد اللغات فيها) منذ استعمار البرتغال البلد سنة 1530. وفي شمال شرق آسيا فإنّ ست لغاتٍ فقط هي التي يُتوقَّع لها أن تثبُتَ في وجه اللغة الرّوسيّة من ضمن 47 لغةً في تلك المناطق، إذ انقرض منها عشرون لغةً لا يتجاوزُ عددُ النّاطقينَ بكلّ منها أكثر من 12 فردًا، وثماني لغاتٍ معرّضة لخطرٍ جسيمٍ لأنّها لا تنتقل من
"دول المشرق العربيّ تكاد تكون خِلْوًا من الصراع الهوياتيّ، إلّا في العراق وسورية، حيث تواجه الدّولتان المشكلة الكرديّة" الآباء إلى الأبناء مع أنّ عدد المتكلّمين بها كثير نسبيًّا، و13 لغة أخرى معرّضة لخطر الانقراض. وفي أوروبا انقرضت 12 لغةً على مدار 300 سنة، وفقدت أستراليا أكثر من 80% من لغاتها البالغ عددها 250 لغةً كانت حَيَّةً في نهايات القرن الثامن عشر. وفي أفريقيا مثلًا هناك أكثر من 200 لغة يتكلّم كلًّا منها أقلّ من 500 فرد. ويذكر الأطلس أنّ 300 لغة قد انقرضت في القرن العشرين وحده.
وهذه خريطة اللغات التي انقرضت من الاستعمال في العالم حتّى سنة 2009:
• انقراض اللغات
ولا تتضمن خريطة للغات التي انقرضت من الاستعمال في العالم حتّى سنة 2009 اللغة العربيّة، وهي توضح أنّ هذه اللغات تتركّز في أفريقيا وأستراليا والأميركيتين، الجنوبيّة والشّماليّة، وبعضها في أوروبا، وبعضُها على أطراف العالم العربيّ. وتظهر مراجعةٌ متأنّية للخرائط التي نشرتها "يونسكو" أنَّ العربيّة الفصيحة بعيدةٌ عن دائرة الخطورة الحقيقيّة، وعلى الأقلّ ليسَ في هذا القرنِ، بل إنّ "لهجات عربيّة" كثيرة ليست في دائرة الخطورة، وهذا وفق مقاييس "يونسكو" نفسها الّتي صنّفت بحسبها مواقع لغات العالم من خطر الاندثار.
الوكالات