الثقافي

إريك جوفروا: التصوّف كحبوب لتهدئة أعصاب العالم

يرى في "التطرّف" جرحاً متقيّحاً من بين جراح عديدة

لا يقلّ محتوى كتاب إريك جوفروا "سيكون الإسلام روحياً أو لن يكون"، حزماً وإشكالية عن عنوانه. فقطعيّة العنوان، وإشكاليته، اللتان تجعلان من الروحانية شرطاً وحيداً لـ "بقاء" الإسلام، تنسحبان على مقترح الكتاب، الذي يبدو، في كثير من مواضعه، طموحاً ومغايراً للسائد من الكتابات الإسلامية.

في تقديمه لطبعته الفرنسية الثانية، الصادرة أخيراً بالتزامن مع ترجمته العربية ("المستقبل للإسلام الروحاني"، ترجمة: هاشم صالح، عن "المركز القومي للترجمة" في مصر، بالاشتراك مع "نبض للنشر والتوزيع")، يقول الكاتب والباحث في الصوفيّة إنه إذا كان عنوانه قد بدا للبعض "مستفزاً" حين صدور الطبعة الأولى من الكتاب عام 2009، فإنّ له أن يبدو اليوم أكثر تبصّراً واستشعاراً للخطر.ذلك أن "الأعراض" التي وصفها وحلّلها وقدّم علاجاً لها في ذلك الوقت، والتي كانت طفيفةً نسبياً حينها، باتت اليوم في مرحلة متقدّمة من الالتهاب الذي لا يعتمل في "جسد" الإسلام فحسب، بل في "جسد" الإنسانية برمّتها.

الحديث عن عوارض تحوّلت إلى آفات، بين الأمس واليوم، قد يستحضر، قبل أيّ شيء، مسألة "الجهاد"، ذائعة الصيت هذه الأيام. غير أن القارئ الوفيّ للخطاب الإعلاميّ السائد، الباحث في سياق كهذا عن سرديّات وتفسيرات شافية للحيرة حول "الجهاد" و"المجاهدين"، بوصفهم أصل البلاء الوحيد، قد لا يجد ما يرضيه في عمل الباحث الفرنسي.ذلك أن جوفروا لا يرى في "الجهاد" إلا جرحاً متقيّحاً من بين جراح عديدة غير معالجة يعاني منها حاضرنا. "جراح" ذات أبعاد دينية، وسياسية، وأخلاقية، وبيئية، يتموضع "الجهاد" فيها إلى جانب مشكلة العولمة، و"فضيحة" التعامل مع قضية اللاجئين والمهاجرين، كذلك أزمة الفراغ واللايقين في مجتمعات ما بعد الحداثة، ومشكلة وصول إنسان "الحداثة" و"التقنية" و"التطور" إلى مرحلة تدمير ذاته وكوكبه.

بالنسبة إلى جوفروا، تشترك كلّ هذه المشكلات بأن لها جذراً واحداً، أعمق وأكثر تعقيداً، يتمثّل في ما يسمّيه بمشكلة "انعدام المعنى" أو العدميّة. وهو، في كتابه هذا، يتفرّغ للحديث عن الشقّ الإسلامي من هذه المشكلات، محللاً إياها وطارحاً حلاً لها، من دون أن يعني ذلك عزلاً لما هو "إسلامي" عمّا هو "غربي" أو "كوني". ذلك أن الكاتب يرى في الإسلام مشروعاً كونياً بالضرورة، ولولا ذلك لما كان، هو الفرنسي المسلم، معنيّاً بهذا الدين ولا بالنقاش حوله.

رغم ذلك، لا يخفي الكاتب أن الإسلام يعيش أزمة كبيرة في الوقت الحالي. وهو أمر يقوله عنوان الكتاب بلا مواربة. في الحقيقة، يرى جوفروا أن ما تعيشه بلاد المسلمين، اليوم، من ركود، وانغلاق على الذات والعرق، وواحدية مهيمنة في الفكر والرأي والتصرّف والملبس، وعدم احترام للآخر واختلافه، وقمع للمرأة وللحريات، وتهرّب من المسؤولية، وهوَس بالتحريم والتحليل وبالفتاوى، وازدهار لمعتنقي "الجهاد"؛ ينمّ عمّا يسمّيه "انقلاباً للقيم الإسلامية" الحقيقية. أيّ أن هذه التصرفات تأتي بعكس ما يحضّ عليه الإسلام.

ينضمّ الكاتب، برأيه هذا، إلى تقليد معروف يفصل بين النصّ الدينيّ وتطبيقه، ويقول إن الإسلام التاريخي انحرف عن سمت "الإسلام الحقيقي". وهذا رأي يخصّص الفصل الأوّل من كتابه لتفصيله وإيضاحه، مفنّداً، بلا كلل، تلك التصرّفات "المنحرفة واحدة واحدة. فهو يحاجج، مثلاً، ضد التقوقع على العرق والدين والثقافة، مبرهناً على كونية الدين الإسلامي من خلال الاستشهاد بعدد كبير من الآيات والأحاديث.تبقى محاججات جوفروا، التي نألف جزءاً منها ونكتشف آخر، دليلاً عن اشتغال معرفي يستحق التقدير، يستند إلى قراءة واطّلاع واسعين، يغطّيان كتابات إسلامية من عصور مختلفة، وكذلك أعمالاً غربية، فلسفية واجتماعية.

من نفس القسم الثقافي