الثقافي
مختبَر الكتابة وحِيَلها في "تنقيح المخطوطة"
يستنطق الكاتب الحلم ليكون شخصيّة روائيّة لديه، يوليه عناية لافتة
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 19 جانفي 2019
في روايته "تنقيح المخطوطة"، يخوض العُمانيّ محمّد الحارثيّ (1962) في عالم الكتابة والمراحل التي تمرّ بها الرواية منذ لحظة انبثاق الفكرة، مروراً بتخمّر الأحداث ورسم الشخصيّات واحتلالها الحيّز الخاصّ بها، وبمراحل الكتابة والمراجعة والتدقيق والتنقيح، وصولاً إلى القارئ، ليبرز حياة الرواية النابضة في حياة قلقة، وإمكانية أن تكون حجراً يحرّك ركود مجتمع برمّته.
تتصارع في "تنقيح المخطوطة" التي أصدرتها دار "الجمل" في بيروت أخيراً، عدّة عوالم، تدخل في بحر المنافسة والتجاور معاً، حيث صراع الواقع والمتخيّل. فالحلم يحتلّ الحيّز الأكبر في متاهة الطبقات، وكأنّ الكاتب بصدد تقديم دراسة مفصّلة عن طبقات الحلم أو دوائره المتشعّبة، فيغوص في الحلم داخل الحلم، ما يذكّر بعوالم فرويد وتشخصيه بعض العلل انطلاقاً من الأحلام، كما يشير إلى الفحص السريريّ والاستشفاء عبر الحلم، والكتابة تالياً.
بطل الرواية كاتب قصص عجوز يقبل على كتابة رواية بعد إلحاح صديقه الناقد عليه، وبتشجيع من ابنته الوحيدة. ولأنّه يعاني من أمراض خطيرة تعرّضه لنوبات يأس مزمنة، يرضخ لرغبة صديقه وابنته، فينطلق في الكتابة ويخترع عالماً بديلاً، مانحاً شخصيّاته حرّيّة الحركة والقول والفعل، ومفسحاً لها مجالاً للمبادرة والبوح، ومحتفظاً لنفسه بمهمّة التنقيح والمراجعة، وكأنّه بصدد تنقيح حياته في روايته، أو كأنّ التنقيح الكتابيّ يكون تعويضاً عن الجانب الآخر الذي فقده ولا يحاول استعادته لأنّه يدرك أنّ الوقت فاته.
يتأثّر بطل الرواية بشكل خاصّ بأولئك الذين أقدموا على إنهاء حياتهم برغبة منهم وتخطيط، وكأنّهم يعيدون تنقيح مخطوطة روايتهم الأخيرة ويوقّعون عليها برصاصة الرحمة التي تختلف من أحدهم إلى الآخر، ويتماهى مع بعضهم في توقيعه على الخاتمة باختيار نهاية حياته عبر خلطه أدوية تمنحه موتاً هادئاً دون ألم أو ضجيج، عساه يلتقي مع أصدقائه الأدباء السابقين في حانة الأبدية ليتبادل معهم أنخاب الحياة والموت والأدب.
يهيمن على الكاتب شبح بعض أولئك الكتاب، وبخاصّة دوستويفسكي، حتّى أنّ شخصيّة بطله المتخيّل يلقّب بصادوفسكي، في إحالة إلى ربطه بشخصيّة روائيّه الأثير والحديث عن حلمه الأثير أيضاً ضمن معمعة واقع متخبّط يتنكّر للمواهب ويلغي الدور المنشود للكاتب، ويبقيه في معزل عن التأثير، داخل زمن حصار الكلمة وتقييد الأديب وفرض نوع من الحجر عليه ليمنع تواصله مع الناس ويحجّم من تفاعله وتأثيره، وذلك في معرض إشارته إلى رعب الطغاة من الكلمة الحرّة المسؤولة.