الثقافي

ميشال أونفري في كتابه الجديد: الواقع لم يقع

دون كيشوت أفلاطوني نموذجي يعتبر أن الفكرة التي تقول العالم هي حقيقية أكثر من العالم الذي تقوله

أصدر المفكر الشعبي الفرنسي ميشال أونفري كتاباً جديداً بعنوان "الواقع لم يقع - مبدأ دون كيشوت" (دار"أوترومان"، 2014)، من المفترض أن يشكل الجزء الأول من سلسلة تحمل عنوان "التاريخ المضاد للأدب" وتتناول من وجهة نظر فلسفية أعمالاً شهيرة طبعت الأدب الأوروبي.

يفتتح أونفري كتابه بالكلام عن الفرق بين دون كيشوت الأصلي في رواية ثرفانتس ومصطلح "الدونكيشوتية" الذي، تبعاً لاستخدامه الرائج في الفرنسية ولغات أوروبية أخرى، حوَّل شخصية "عدوانية وخبيثة، مصابة بجنون الشك والهوس الأحادي، ومنفصلة عن الواقع وناكرة له، إلى بطل إيجابي (...) هو على نقيض الانتهازية والكلبية، ويتمسّك بالمثال في عالم يدعو فيه ازدهار الرذيلة وبؤس الفضيلة إلى النكران والمساومة على الأخلاق".

بوسع القارئ هنا أن يتوقع كتاباً يعيد قراءة الرواية في سياقها التاريخي والجغرافي بمعزل عن الإسقاطات اللاحقة التي أعطتها بعداً كونياً. لكن أمله سيخيب حين يختتم أونفري الجزء الأول بالقول أن ما يغفله تعريف الدونكيشوتية في القواميس الفرنسية هو "الشغف بالأفكار على حساب الواقع، ديانة المثال تلك التي لا تعير الواقع أي اهتمام (...). يتجلى أن دون كيشوت هو افلاطوني نموذجي يرى أن الفكرة التي تقول العالم هي حقيقية أكثر من العالم الذي تقوله. (...) وهو مرض غالباً ما يصيب المفكر الغربي المتحدر من سلالة طاليس".

هذه السطور تلخص مقاربة أونفري الذي يقرأ رواية ثرفانتس، من منظورٍ هو خليط هجين من النيتشوية المُبسَّطة والمادية والشعبوية، على أنها أولاً رواية ضد المسيحية، ومن ثم رواية ضد كل الأديان والإيديولوجيات والمنظومات الفكرية، من الافلاطونية إلى الفرويدية مروراً بالفاشية والشيوعية والرأسمالية وغيرها. وبالنسبة إليه، الرواية تنتصر لخادم دون كيشوت، سانشو، الذي يمثل رجل الشارع البراغماتي والحكمة الشعبية المتوارثة التي تنقل العالم كما هو من دون توسط الكتب.

لاحقاً يقترح أونفري أن تكون رواية ثرفانتس تحاكي بصورة ساخرة "حكاية الحاج"، سيرة مؤسس عصبة يسوع إينياس دو لويولا، كما يستدعي سِيَر نماذج مسيحية أخرى ليقارنها مع أحداث الرواية وشخصياتها. المفارقة أن قيم الفرسان الجوالين، التي يسخر منها ثرفانتس ويعتبر أونفري أنها تمثل المسيحية، تكاد تكون هي عينها قيم الفرسان الشعراء الجاهليين الذين يعتقد طه الحسين أنهم اخترِعوا في العصر الأموي، وإن مع تفاوت ملحوظ في معايير العفة.

وفي ما يخص "دولسيني"، حبيبة دون كيشوت الوهمية، يرى أونفري أنها تمثل النموذج المسيحي الطهراني للمرأة المتجسد في صورة القديسة أو مريم العذراء؛ والذي، برأي أونفري، لا وجود له إلا في عالم المُثل والأفكار المجردة. وفي هذا السياق، يقارنها مع شخصية نسائية تحررية من لحم ودم تظهر في الرواية ويعتبر أنها تمثل النموذج النقيض: كريسوستوم (Chrysostome) الأبية والرافضة للزواج التي ردّت كل عشاقها على أعقابهم وانسحبت إلى الغابة لأنها ترفض الخضوع لأي رجل.

من نفس القسم الثقافي