الثقافي

طاووس عمروش.. دفاتر العزلة الحميمة

أمضت حياتها تبحث عن صنوٍ متسامٍ تغترب فيه

تكتب عمروش كما لو أنها تشرّح نفسها والآخرين بالمِبضع

 

في "دفاتر مالطا"، احتفى الشاعر الألماني ريلكه بـ "العشيقات الخارقات" اللواتي يتجاوزن بمواهبهن المعشوق، مستشهداً بالراهبة البرتغالية ولويز لابيه وجولي دو ليسبيناس اللواتي "تحوّل عذابهنّ (في الحب)، فجأةً، إلى روعة مريرة وباردة يتعذّر إيقافها".

الكاتبة الجزائرية الأمازيغية طاووس عمروش (1913 ـ 1976)، التي صدرت لها أخيراً "دفاتر حميمة" عن "دار جويل لوسفِلد" الباريسية، هي من طينة أولئك النساء. فحين انتهى الكاتب الفرنسي جان جيونو من قراءة روايتها "العشيق الخيالي" (1975)، أسرّ لها كتابةً بأنه فكّر باستمرار، أثناء هذه القراءة، بالراهبة البرتغالية ودو ليسبيناس.

الكتاب، الذي وصفته عمروش بـ "الهذيان البصير"، له أيضاً شكل الدفاتر الحميمة؛ إذ روت فيه قصة حب الروائي مارسيل أرِنس وأمينة، المرأة المتزوجة من الرسام أوليفييه المغروم بدوره بامرأة أخرى. ووفقاً للكاتبة، لعب الدفتر الأول من يومياتها، الذي خطّته بين نهاية 1952 وأواخر 1953، دور المرجع لهذه الرواية التي تشكّل الجزء الثالث من رباعية روائية تحمل عنوان "حصاد من المنفى"، صدر الجزء الأول منها عام 1947 تحت عنوان "ياقوتة سوداء"، والجزء الثاني عام 1960 تحت عنوان "شارع تامبوران". أما الجزء الأخير من هذا العمل، الذي يحمل طابع السيرة الذاتية، فصدر بعد وفاة صاحبته، عام 1995، تحت عنوان "عزلةٌ يا أمي".

ولمن لا يعرف عن عمروش سوى أناشيدها الأمازيغية المؤثّرة (كانت مغنية أيضاً)، تشكّل هذه الروايات الأربع مشروعاً جريئاً وضخماً حاولت من خلاله إعادة امتلاك نفسها، هي المولودة من عائلة هاجرت إلى تونس، قبل أن تستقر شخصياً في فرنسا، حيث عاشت الجزء الأكبر من حياتها، وتختار الفرنسية لغة للكتابة.

منفية ستبقى تلك "الملكة الشابة ذات العرق الغامض والدم الأفريقي"، كما نقرأ في "ياقوتة سوداء"، والتي ستتساءل صديقاتها إن لم تكن امرأةً مجنونة متعطّشة لتدمير النظام والعادات والقواعد المتّفق عليها. منفية، مثلها مثل شخصية ماري كوراي، في "شارع تامبوران"، التي تعبر أزمات تصوّف وتعرف جيداً أنها ليست متأقلمة مع محيطها الاجتماعي؛ ومثل شخصية أمينة، في "عزلةٌ يا أمي" و"العشيق الخيالي"، التي تقول إنها "فتاة الكهف وعصر الصوان" وتسرّ لنا بأن اعتناق عائلتها المسيحية جعل منها شخصاً موبوءاً يتجنّبه الجميع. منفية لكونها ترى في نفسها كائناً هجيناً، مسكوناً بالمغالاة، وقادراً فقط على أقصى الإثارات والاحتدام، تحرّكه حمّى الجسد وصوفيته.

ولا مبالغة في شعور عمروش بالنفي، إذ كانت زهرةً مقتلعة من تربتها، تتوجّه نحو الشرق، حين كانت تشعر بأن الغرب يلفظها، على أمل أن يكون أكثر رأفةً بها؛ ونحو الأدب، حين كان الشرق يخيّب أملها أيضاً، فتكتب كما لو أنها تشرّح نفسها والآخرين بالمِبضع. وفعلاً، لطالما أجّجت داخلها تلك الرغبة في تشريح ما تبقى لديها من أوهام، خصوصاً حين انطلقت، بموازاة عملها الروائي، في كتابة دفاتر يومياتها الخمسة، بين عامَي 1953 و1960.

في مذكّراته، يقول عنها أخوها الأكبر، الشاعر جان عمروش، إنها كانت تمثّل في العائلة "الجانب المؤلم والمتحفّظ"، وإنها لم تكن تُثبت نفسها إلا في التمرّد المطلق. هذا ما يتجلى بقوة في دفاترها الحميمة التي تصدر للمرة الأولى، وإن اعتبرت نفسها، كعاشقة، "سهلة الانقياد بشكلٍ مؤسف".

لكن ما يتجلى خصوصاً في هذه الدفاتر هو العشق الذي غذّته طوال ثماني سنوات لجان جيونو، الكاتب صاحب "القلم الإلهي" الذي كان يناقض إعجابها به من فرط "خساسته وعدم إخلاصه وفظاظته". وفي هذا السياق، تقول أيضاً إنه أدخلها إلى حياته من الباب الخلفي فبقيت تحت سلطة حبٍّه الجائر إلى حد ولّد فيها ضغينةً ودفعها إلى عدم فتح قلبها في دفاترها إلا كي تقول رغبتها في الانتقام. وبينما كان جيونو يسمّيها "أنتيغون" حياته، كانت هي تتماثل أكثر مع النحاتة كمييّ كلودِل التي سحرها النحات رودان وسمّمها حبّها له.

ومثل كلودِل، استسلمت عمروش لافتتانها بجيونو فتركت نفسها تُهان وخضعت لإرادة هذا الكاتب الذي قال مراراً إنه كان يقاومها بكل قوته، كما لو أنها كانت خطيرة، متطلّبة جداً، ومستأثِرة جداً. فلم يبق أمام عمروش سوى الكلمات التي كانت تنتظر منها الشفاء، لأنها كانت تشعر بأنها مبتورة، مُتلَفة بتلك "الشوكة في القلب" التي كانها جيونو في حياتها.

كانت تكتب مثل صنوها، الفتاة أمينة في "عزلةٌ يا أمي"، عبر التواري في ما كانت تكتبه، كما في حريق غابة، عبر السكن في عالمٍ من لهبٍ ونيران كي تتطهّر من عواطفها تجاه جيونو. وكانت قد فكّت ارتباطها المرضي به منذ زمن طويل لو لم يكن يملك تلك "الموهبة السحرية" في التعبير التي كانت تفتنها كلياً ووضعتها تحت سلطته، حتى قبل صيف 1952 الذي رافقت فيه شقيقها جان إلى مدينة "غريو لي بان" لإنجاز سلسلة حوارات مع صاحب "ملك بلا سلوة".

الكتابة، بالنسبة إلى عمروش، كانت أيضاً وسيلة لإعادة امتلاك نفسها والتحرّر من ذلك الذي كان يجب، بحسبها، أن يكون فخوراً بأن الحب اللامتناهي الذي ربطها به كان يثير رغبتها في الكتابة ويغنيها ويدفعها إلى إعادة خلق ما لم يكن سوى عذابٍ، لأنها كانت من أولئك الذين ينسجون بأنفسهم، وبتفنّنٍ كبير، خيوط تعاستهم. مثل التونسية الأمازيغية رين (ملكة) في "ياقوتة سوداء"، كانت مغوية ترى نفسها كمراقبة، "خارج المجموعة"، تترصّد ذلك الجانب الغريب في كل شخص، علماً أن بعضهم كان يرى فيها عبقرية الشر.

عمروش، التي ابتكرت جميع تلك الشخصيات النسائية الحائرة والضائعة، تظهر لنا في دفاترها الحميمة كامرأة مشغوفة ومتّقدة، كل شيء يجرحها من فرط حساسيتها. ومع ذلك، حين كانت تكتب، لم تكن ترغب في بلوغ شيء آخر، داخل لعبة العواطف، سوى الدقة في "التحليل الذي تذهب به إلى حدود القسوة".

على مدى سنوات طويلة، لاحقت عمروش العاشقة "سراباً جميلاً وقاتلاً" حتى فقدان نفسها، ولم تكن إلا انتظاراً وألماً، ولكن أيضاً إثارةً ورغبةً في إعادة ابتكار الحب، حتى في قلب خيباتها. وبالتالي، لم تكتب لتضمّد جروحها فقط، بل لتعثر أيضاً على وطن خيالي تنفي نفسها فيه ويقيها شر وتمزّقات كينونتها.

سواء في الحب أو في الأدب، طاووس عمروش كانت أورفيوس. كانت الأدوار مقلوبة، إذ كان جيونو هو أوريديس، لأنها كانت تضيّعه دائماً. وفي كل مرة كان يحصل ذلك، لم يكن أمامها سوى "تحويل هذا الحب الخائب إلى كتب". ولا شك أن ريلكه كان قد بجّلها، لو عرف تلك المنفية من الحب، تلك "العاشقة الخارقة" التي أمضت حياتها تبحث عن صنوٍ متسامٍ تغترب فيه.

 

من نفس القسم الثقافي