الثقافي

شيركو فتاح: بغداد ومتاهات الزمن الاستعماري

يصوّر استيقاظ العراق من خدره مع عبث الأوروبيين بمصيره

"بلد أبيض" هي الرواية الرابعة للكاتب العراقي الألماني شيركو فتاح. رواية صدرت حديثاً بعنوان "لص من بغداد" عن "دار ميتيليي" الباريسية، بترجمة عن الألمانية لأوليفيي مانوني، وينقلنا فتاح فيها إلى تلك الفضاءات الوسيطة التي تختلط فيها الثقافات.

تجدر الإشارة بدايةً إلى أن هذه الرواية الضخمة (468 صفحة) تتضمن عدداً من الموضوعات الحاضرة في رواية فتاح السابقة، "السفينة الغامضة". فمثل الشخصية الرئيسية في هذا العمل، كريم، يصطدم بطل "بلد أبيض"، الشاب أنور، بقدرٍ مأساوي.إذ نجده يتأرجح وفقاً لأحداث لا يتحكّم إطلاقاً بها، منحرفاً وتائهاً، يستغلّه حُماة مزيّفون. وأكثر من كريم، يلوّث أنور يديه بقبوله المشاركة في مغامراتٍ قاتلة، مواجهاً بشكلٍ ثابت سؤال الخيانة، يحرّكه الطموح في أن يصبح ما وُلد كي يكونه، ويجهله. إنه كائنٌ بعيد عن الواقع، يميل إلى الخمول أكثر منه إلى الحركة والفعل المدروس: "فعلتُ ما اعتدتُ أن أفعله حين كان الوضع يمنعني من الحراك: الاستسلام للحلم"، يقول في مكان ما من الرواية.

ومع أن فضاء الكاتب يتمدد، مرةً أخرى، بين العراق وأوروبا، إلا أنه سيرجع هذه المرة إلى زمنٍ أبعد، وتحديداً إلى المرحلة الممتدة بين الثلاثينيات والخمسينيات من القرن الماضي، علماً أن الحقب والأماكن تتجمّع على شكل "مربِكة" (puzzle)، مع نقطة انطلاق للرواية تقع عشر سنوات بعد الحرب العالمية الثانية، وكان أنور قد بلغ الخامسة والثلاثين من عمره، وفقد جزءاً من ذاكرته بسبب حادثة مشؤومة؛ فقدان يسمح للروائي ببلبلة التسلسل الزمني الطبيعي من أجل منح للزمن المُعاش كثافةً أخرى.وفوراً يتمايز أنور عن سير الأحداث التي ستزعزع العالم وتُخرج منطقتنا من خدرها. في البداية، يرفض البقاء في بغداد لعيش الحياة نفسها التي عاشها والده. والسبب؟ ترداد الأخير أمامه أن العراقيين ناموا على ماضيهم المجيد، وأن قدوم الأوروبيين إلى العراق هو الذي كشف عظمة آثار تاريخٍ أفلت ممن صنعوه: "البريطانيون، أساتذتي وجميع الذين التقيتُ بهم لاحقاً كانوا يحبّون ما هو قديم جداً في هذا البلد، أشياء كنا قد نسيناها منذ زمنٍ طويل. كانوا ينبشون مكعبات حجرية ضخمة، محاربين وأسود كانوا يتماثلون بها. كانوا يسمّون هذه الأشياء ثقافتنا".

وفي هذا السياق، يضع فتاح على لسان بطله هذه الكلمات التي سيقولها بسخرية: "اضطروا إلى المجيء لتشييد البلد الذي نعيش فيه منذ زمنٍ غابر". إذ لن يلبث أنور أن يتحرر من "منطق" والده ويبدأ البحث عن مرشدين جدد، فيقع على شخصيات سافلة، أوّلهم مالك اللص والمجرم الذي سيعلّمه تسلّق جدران المنازل، ما سيُنقذ حياته أكثر من مرة؛ ثم نضال الذي يتزعّم مليشيا ويفوّضه بمهمة حراسة ابنه، السافل مثل أبيه، ويقذف به في أتون الحرب التي كانت مشتعلة في أوروبا، حيث سيستلمه الدكتور شتاين، وهو طبيب نازي ومدمن على المخدرات سيُنقذ حياته ويساعده على العودة إلى بلده، لكن بحالة عقلية يرثى لها.إذن، لا نهاية سعيدة للرواية، ففور وصوله إلى بلده، سيستأنف أنور من جديد علاقاته برفاقه القدامى، ومن بينهم أشخاص من الطائفة اليهودية كانوا يحلمون بالثورة في الثلاثينيات، قبل أن يفضّلوا عليها الهرب إلى "إسرائيل".

العنوان الألماني للرواية، "بلدٌ أبيض"، يحمل طابعاً سياسياً واضحاً لكونه يستحضر الاسم الذي منحه القائد النازي هاينريش هيملر لأراضي شرق أوروبا التي ادّعى "تطهيرها" من الشعوب غير المرغوب فيها، من أجل تحويلها إلى أراضٍ جرمانية.

 

من نفس القسم الثقافي