الثقافي

صلاح فائق لا يغادر غرفته إلا لزلزال

أنا في نهاية مقطع أسأل جدولاً عن سبب وقوفه، تحت قنطرة، فلا يجيب

هواجسه وتخيلاته وكوابيسه، قد تقول هذه الكلمات الثلاث الكثير ممّا سيجد القارئ في "مقاطع يومية"، عنوان المجموعة الشعرية الجديدة للشاعر العراقي صلاح فائق (1945)، والتي صدرت عن منشورات جماعة "أنا الآخر" ودار "أروقة".ها هنا تقترن حياة فائق اليومية الحقيقية وتلك المتخيّلة لتخرج في قصائده المكتنزة بالمُعاش من طقوس وحكايات، والمتأرجحة أيضاً بين أحلام النوم واليقظة.يمكننا أن نلمح الشاعر في الليل، حيث يصبح الظلام مكاناً ليعيش حيوات متخيّلة يرتب فيها أشياءه ويكتب رسائل للأموات. يتحدث إلى ظله الذي يصطحبه معه في السفر. يستمر في فعله الأثير؛ أنسنة الأشياء، ها هو يتكلم معها ويهاتفها أو يطاردها أحياناً: "لا أغادر غرفتي إلا أثناء زلزال/ أو فيضان/ علاقتي متينة مع الليل/ فهو حول بيتي طوال الليل/ مثل حارس. لذا فأنا مطمئن/ أهيئ مواهبي لنهاية الأسبوع: أزور سفينة مهجورة/ أكتب رسالة إلى أمي الميتة وربما/ قصيدة أو قصيدتين عن نفسي. إذا رأيت عاصفة تقترب/ أذهب إلى مقدمة السفينة، أدير العاصفة نحو/ جبل شاهق، حيث قطّاع طرق/ وبقايا ثوريين".

ليست الأشياء فقط التي تملأ حياته، كذلك الأشباح التي ترتاد المطاعم وتضيّع مواعيد الطائرات، إنها أشباح بائسة لا تخيف أحداً بل يُرثى لها: "أرى طفلي من نافذة/ يتكلّم مع شجرة/ سقطت طائرة أمامنا صباح أمس/ كانت فارغة ثم طارت في الليل/ وفيها باعة خرز، أساور وقلائد مبهرجة/ رأيت شبحاً يهرب من مطعم/ ليلتحق بالطائرة/ لكنه فشل/ سرّني هذا".

في "مقاطع يومية" نحن محاطون بالمغامرات الشعرية الطازجة، نحن نتفرّج على شاعر يلعب بالقصائد، سنجده في مركبة فضائية وبعد قليل سنعثر عليه في سوق السمك. لا شيء يخضع للمعقول ولا ما نعرفه عن الشعر. فائق يجرّب أمامنا في منطقة جديدة نسبياً لم يذهب إليها من قبل في مجموعاته السابقة.في إحدى المقاطع يقول صاحب "دببة في مأتم": "أهرول وقت الفجر حول مستشفى/ أسمع جداراً يقرأ قصيدة/ وتستمع جدران أخرى. أقف وأصغي: إنها قصيدتي بصور ومقاطع جديدة/ لم أكتبها. منها، ممرض يشتم حصاناً في حديقة/ وأنا في نهاية مقطع أسأل جدولاً عن سبب وقوفه/ تحت قنطرة، فلا يجيب".

أمّا في قصيدته "كوابيس تجلس في الحديقة"، فنرى قططاً تموء بكسل، وأسود رابضة بين النباتات. إنها كوابيس فائق التي تتحرك في الحديقة بعيداً عن الرعب، كسلى وربما نائمة أو كامنة.

يشعر قارئ فائق أنه يفعل كل شيء بحيث يكون صالحاً للكتابة عنه، ينام ويسافر ويمارس عيشه اليومي كأنه في معمل تجارب مخصص للشعر. هكذا فقط يمكن لقصيدته أن تعيش بيت الذكريات والتهيّؤات والتخيّلات واللاوعي والميتافيزيقا المتخمة بالأشباح والحيوانات.بالنسبة لفائق هذه المملكة من الغرائب مجرّد أمور عادية موجودة في القصيدة بشكل طبيعي، كأن القصيدة مكان فيه منازل وشوراع ومطارح تعيش وتتنفس فيها هذه الحياة.

في قصيدة بعنوان "شموع لجنازة كلب"، يقول صاحب "ومضات": "ليست الشموع لغرف نساء متوحّدات/ لحملها في جنازة كلب/ ولا لمساعدة قطّاع طرق/ أستدرج بها أشباحاً من قلاع ومنحدرات/ في كتب قديمة، ليقرأوا لي ما بقي/ من حظوظ هذه الأرض، ينظفوا موقدي/ ويحطموا بمرافقهم، مآثر مزيّفة لأجدادي".

 

من نفس القسم الثقافي