الثقافي

يوسف المحيميد: عالم خرّبته الوحدة

تبدأ الرواية من نهاية الحكاية، من زمن الصمت الذي استقر وركد

لم ينتظر راوي "غريق يتسلّى في أرجوحة" حتى يدخل القارئ في الحكاية ليتآلف معها أو ينفر منها، إنّما بادر إلى أخذه إلى مواضع تتبدّد فيها الخيارات وتنفتح على التعاطف منذ أول جملة: "لقد تعبت"؛ جملة لا تتساءل عن التعب في كثافته ومداه، ولا تحاور، إنها تقرّر حقيقة.

تبدأ رواية الكاتب السعودي يوسف المحيميد من نهاية الحكاية، من زمن الصمت الذي استقر وركد حتى تخشّب لسان فيصل في زمن العزلة التي نسي فيها صوت جرس الباب، فيتحرك ليتأكد إن كان ما زال يعمل أم عطّل. هذا الزمن بالنسبة لفيصل قد تخثّر، ماتت أمه وهجرته حبيبته ناهد. وأُلغي مهرجان الأفلام القصيرة، الذي كان يعمل فيه، بسبب الضغوط عبر الخطابات والفاكسات والإنترنت التي أرسلها أولئك الذين يتدربون على معايشة الموت في القبور المفتوحة.

تتشكّل الرواية - الصادرة حديثاً عن "المركز العربي الثقافي"- من منظور ثلاث سرديات، واحدة على لسان فيصل، الراوي الأول في الترتيب وفي الوظيفة الروائية. ثمّ سردية ناهد الحبيبة، التي تحكي عن تاريخها الخاص وتاريخ عائلتها في جِدة، وعن فهمها لفيصل ومعاناتها في العلاقة معه وهجرانها له، وكيف ظلّت تنتظر لعله يأتيها متسلّلاً.

ينكشف عالم المرأة وخوفها وامتلاؤها بخيالات تعويضية منفصلة عن التجربة الحية. وفي فصل واحد، هو الفصل السادس، يستكمل السارد الثالث الغائب الذي يشغل موقع المؤلّف ما يعجز الساردان فيصل وناهد، عن قوله حول خلوتهما اليتيمة في غرفة الفندق في جِدة. علاقتهما الحميمة المعطّلة بالخوف والجهل والغربة، نشأت وتفتحت في المصادفة والاعتباط واختنقت وماتت فيه، من دون أن تتوفر أدنى إمكانية للمساءلة والمعاتبة فالمراجعة والمسامحة ثم استئناف العلاقة.ليس ممكناً سوى الانكفاء في العتمة الراكدة، في عالم مكتوم ومخرّب بالوحدة والقدَر المتعسّف، وفي النميمة والفساد والعطالة في مجتمع كهذا. هذا العالم الذي يعبّر عنه الراوي بكثافة رمزية في مشاريع أفلام متخيّلَة: قدمان تركضان "محفوفتان باللهاث، وتسقط الكاميرا، لتكون عينها مصوّبة تجاه السماء البيضاء"، أو في أفلام قصيرة تمكّن من إنجازها: شاب يعدّ القهوة في مطبخ شقته صباحاً، يلقي نظرة إلى الشارع الفارغ فيتخيل أنه مزدحم بالمتظاهرين الذين يفتحون أفواههم من دون صوت.

عالم لا يمكن احتماله إلا بنفيه في حياة موازية، عبر الأفلام المكتوبة في الرواية بحُرية، عبر السينما في بلاد ليس فيها، حتى اليوم، دور للعرض.

 

من نفس القسم الثقافي