الثقافي

بدر الديب: شيء ما أخذ مني مصر

في كتاب حمل اسم "حديث شخصي"، إضافة إلى ثلاث قصص، إحداها تحمل الاسم نفسه

وسط ركام هائل وغثّ من الإصدارات الجديدة، يتّجه عدد من دور النشر المصرية الجادة إلى إعادة نشر كتب قديمة، كتبها أو ترجمها كتّاب مصريون منذ سنوات. في هذا السياق، أصدرت "دار الكرمة" رواية بدر الديب القصيرة "أوراق زمردة أيوب"، مؤخّراً، في كتاب حمل اسم "حديث شخصي"، إضافة إلى ثلاث قصص، إحداها تحمل الاسم نفسه.

بدر الديب (1926 - 2015) مفكّر ومثقّف مصري من العيار الثقيل، ونظرة سريعة على سيرته الذاتية في الغلاف الخلفي لصاحب "كوميديا الأخطاء" و"إجازة تفرّغ" ستكشف الكثير عن شخصية مثقّف من جيل الأربعينيات.

في العمل، يصف الأسابيع الأخيرة من حياة زمردة أيوب على لسانها، السيّدة المسيحية المصابة باللوكيميا، المؤمنة والمعذّبة بالخطيئة الهائلة التي ارتكبتها. كاد المؤلّف أن يتوحّد تماماً مع بطلته، ولولا اسمه على غلاف الكتاب، والعلم بأن ما يُقرأ عمل أدبي خيالي، لظن القارئ أنه يقرأ أوراقاً كتبتها سيدة مسيحية مصرية فعلاً، قبل أن تموت.تحضر تفاصيل الإيمان المسيحي في كل صفحة تقريباً، سنرى دميانة وأيوب والمسيح والإنجيل، وسنرى الخطيئة تؤرّق زمرّدة أيوب طوال الوقت، وسنرى الشرير حاضراً إلى جانبها يشغلها دائماً، حتى إنها تتساءل خائفة: "هل الوعي من الشرير؟". لكننا لن نعلم خطيئتها إلا قرب النهاية، وكما يجدر بامرأة خمسينية تحتضر، لن يرد ذكر الحب إلا قليلاً جداً، قرب النهاية فقط، وكأنها تتجاهله وتخشى أن تبرّر الخطيئة باسم الحب.

لكن زمردة ليست سيدة مصرية عادية، هي الفتاة التي أجبرها والدها على الزواج، فتحوّل من مثل أعلى إلى رجل لا يُمكن فهم ما يريد حقّاً، ثم مات زوجها الذي يكبرها بأعوام كثيرة تاركاً ولداً صار مثل الأخ. ورافق الزواجَ والترملَ السفرُ إلى أميركا، ودراسةُ الأدب الأميركي وتدريسه، هنا يظهر البعد الذي تتميّز به زمرّدة عن السيدة المصرية النمطية، وهو ما استخدمه الكاتب بذكاء، فملأ الأوراق باقتباسات من إميلي ديكنسون وكيركيجارد وغيرهما.

هذه ليست قصة عائلة صغيرة تواجه التأميم وفرض الحراسة على الممتلكات في الستينيات، لكنها إعلان ندم وأسى على كل ما سبق في الحياة، وكأن حياة زمردة خلت من المتع، ما عدا متعة واحدة عدَّتها خطيئة، إلى درجة أنها قالت: "إن ما عند الرب عليَّ غير قليل".لا تهتم زمرّدة أيوب كثيراً بما حدث في يونيو 1967، ليس لأن الموت يقف عند الباب، وليس لأن همّها الشخصي كان في تلك اللحظة أكبر من الهم العام، بل ربما لأنها لم تعد مصرية كما كانت.

تغيّرت مصر في عينيها وصارت غريبة عن البلد: "فقط أريد أن أقول إن شيئاً ما قد أخذ مني مصر، وإن الذي يحدث الآن فيها هو مرٌ قاسٍ مرير لا يُفهم، وإنني أخشى وأنا أموت أن تتغير مصر تماماً فلا أعود أعرفها".

 

من نفس القسم الثقافي