الثقافي
الإغريق والتأويل الأوروبي: هيدغر من جديد
تعامل مع فكر الإغريق كما لو كان فكراً هيدغرياً قاصراً
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 09 نوفمبر 2018
في خضم الجدل الذي أثارته قضية "الدفاتر السوداء" حول العلاقة بين نظرية مارتن هيدغر (1889 - 1976) في تاريخ الكون ومواقفه السلبية حيال الثقافة اليهودية، صدر مؤخّراً "هيدغر، بلاد الإغريق، والمصير الأوروبي" عن "مركز الأبحاث في الفلسفة الألمانية والمعاصرة" (CREPHAC).هو كتاب جماعي يضم مجموعة محاضرات ألقيت هي سياق مؤتمر يحمل العنوان نفسه، اخترنا أن نتوقف عند ثلاث منها نظراً إلى أهمية موضوعاتها.
المحاضرة الأولى ألقاها جاكوب روغوزينسكي (Rogozinski) تحت عنوان "هيدغر وخرافة العودة إلى الإغريق"، ويعتبر فيها أن الفيلسوف الألماني، في تأويله للنصوص الإغريقية، يكرر بالضبط ما يعيبه على هيغل، ويسقط طروحاته الفلسفية الخاصة على الإغريق جاعلاً من فكرهم تمهيداً لفلسفته.وفقاً لهيدغر، خبر الإغريق حقيقة الكون، لكنهم لم يعرفوا كيف يفكرونها. هذه الحقيقة تبدّت لهم لفترة وجيزة جداً، قبل أن تحتجب وتتوارى، تبعاً لطبيعتها نفسها، وراء أفق الكائن الذي أضاءته وكشفته، وهذا الانكشاف ـ الاحتجاب سيحدد كل الوجهة اللاحقة للتاريخ الأوروبي.
لا يجب فهم هذا النسيان كواقعة تاريخية كما لو كان الأمر يتعلّق بحقيقة كائنة. الكون ينكشف باحتجابه بالذات، وهذا الانكشاف ـ الاحتجاب هو قدر لا مناص منه. فهو، على نحو مشابه للوحي والخطيئة الأصلية في العقيدة المسيحية، ينبع من طبيعة الكون نفسها، ولا يد لشعب الكون المختار فيه.
يحدد هيدغر نقطة الانعطاف عند أفلاطون الذي، وفقاً إليه، فهم الحقيقة بوصفها تطابقاً (بين نظرة الروح والفكرة المثال) وانحرف بذلك عن الفهم الإغريقي الأصلي لها بوصفها إماطة اللثام عما هو محتجب.لتدعيم طرحه، يشير روغوزينسكي أولاً إلى الطابع الانتقائي لاهتمام هيدغر بالفكر الإغريقي، فهو لم يعر أي انتباه جدي لفلاسفة إغريق أساسيين مثل دمقريطس وأمبدقليس وغيرهم، ثم يعدد المغالطات العديدة التي اكتشفها الفيلولوجيون في ترجمات وتأويلات هيدغر للنصوص الإغريقية، ما اضطر هذا الأخير إلى التراجع عن نظرية الانعطاف الأفلاطوني والاعتراف بأن الإغريق كانوا، حتى في أيام هوميروس، يفهمون الحقيقة بوصفها تطابقاً.
يعتبر هيدغر الثاني أن الكون يُفكَّر أولاً من خلال فعل الحضور. على غرار الحاضر، الماضي والمستقبل هما كذلك نمطان ماهويان من الحضور، ولا يجب أن يُفكَّر هذا الأخير كحالة ما هو حاضر، بل كفعل الانبساط في الحضور (بمعنى بسط أو فتح ما هو مطوي)، الإتيان إلى الحضور أو الدخول في الحضور. وكما أنه لا يمكننا القول عن فعل الحضور إنه يحضر بحيث يغدو كائناً حاضراً، لا يمكننا القول إن الكون يكون، بل فقط: ثمة كون.