دولي
ما بعد الرئيس عبّاس
القلم الفلسطيني
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 20 أكتوبر 2018
عدم مراجعة التجربة الفلسطينية وإخضاعها للنقد، على الرغم من كل التحولات التي شهدتها، واحد من أهم العيوب التي عاشتها التجربة الفلسطينية في تاريخها الحديث، فكل المراجعات كانت للدفاع عن الاستمرار، وليس لمعرفة ما جرى وكيف وصلنا إلى ما وصلنا إليه؟! وتحتاج التجربة الفلسطينية منذ اتفاقات أوسلو، قبل خمسة وعشرين عاماً مراجعة نقدية ليعرف الفلسطينيون أين يضعون أقدامهم، وإلى أين يسيرون. بالطبع، هناك عوامل موضوعية لعدم الإقدام على هذه المراجعة، تتمثل أساسا في سرعة التحولات الفلسطينية التي تركت القوى السياسية تتأثر بالمتغيرات من دون أن تعالجها وتراجعها، ما أوصل هذه القوى إلى حالة ترهل غير مسبوقة. وهناك عوامل ذاتية لرفض التعامل مع أي مراجعة نقدية، لأسباب تتعلق بالحفاظ على معطيات القوى في الساحة الفلسطينية واحتجاز تطورات غير مرغوبة. وبذلك، بقيت الساحة الفلسطينية أسيرة ارتجال السياسات اليومية التي كانت تعالج قضايا جزئية في وقتٍ كانت التغيرات الكبرى تحفر في الواقع السياسي الفلسطيني، من دون أن تراها القوى السياسية، أو تجاهلت هذه المتغيرات.
فكّكت المتغيرات التي شهدتها التجربة الفلسطينية في السنوات المنصرمة منذ مؤتمر مدريد مكونات المشروع الوطني الفلسطيني، كما استقر في الأدبيات الفلسطينية طوال السبعينيات والثمانينيات. وإذا كان صحيحا أن التجربة الفلسطينية خضعت للتغيرات في الهدف الاستراتيجي، كآلية للتكيف مع الشروط والضغوط التي تعرّضت لها، فإن هذه المتغيرات التي ظهرت تأثيراتها البنيوية على التجربة الفلسطينية بعد الاتفاقات الفلسطينية ـ الإسرائيلية، تبين أنها لم تكن تغيراتٍ تعبيرا عن الانحناءة للعاصفة، كي تمر، لأن العاصفة بقيت، والمتغيرات ترسخت في الساحة الفلسطينية، بوصفها اختزالا للمشروع الوطني الفلسطيني إلى حكم ذاتي تحت سلطة الاحتلال.
لقد بدأت التجربة الفلسطينية الحديثة بوصفها حركة لاجئين، للرد على ما أصابهم من تشرّد، وما أصاب وطنهم من اغتصاب، وكانت تهدف، في بداياتها، إلى تحرير الوطن المغتصب الذي لم تكن الضفة الغربية وقطاع غزة جزءا منه، ففي منتصف الستينيات كانت المنطقتان بيدي العرب، وإن لم يحكمهما الفلسطينيون. على ذلك الظلم كان التمرد الفلسطيني في الشتات الفلسطيني، ومن هناك بدأت التضحيات من أجل رفع الظلم عمن تعرضوا للكارثة. وبعد أكثر من خمسة عقود من انطلاق التجربة الفلسطينية، لا تشبه الصورة اليوم صورة الأمس، فقد استمرّت إسرائيل في العدوان، وأحدثت ظلما فلسطينيا جديدا، باحتلال ما تبقى من الأراضي الفلسطينية مع بعض الأراضي العربية. مع الوقت، أصبح هذا الظلم الجديد يحتاج معالجة على حساب الظلم الأول، معالجة مظالم النكسة في مقابل غض الطرف عن مظالم النكبة.
على مدى التجربة الفلسطينية الحديثة، كانت الشروط تزداد سوءا، حتى أن كل خطيب فلسطيني في كل مرحلة كان يبدأ خطابه بأن المرحلة التي نمر بها خطيرة، ولم يكن يجانب الصواب. لطالما كانت المخاطر التي تعرّض الفلسطينيون لها مستمرة، وهذا التراكم من المخاطر والشروط التي تزداد رداءة، كان يعمل في مراحل كثيرة على حجب قضايا فلسطينية رئيسية، كما أدّى هذا التراكم، في نهاية المطاف، إلى حجب الأساس المكوّن للقضية الفلسطينية، عنينا اغتصاب فلسطين، وتحوّل اللاجئون ضحايا الكارثة التي حلت بفلسطين من أساسٍ للصراع إلى واحدٍ من عوارضه.
تنقل مركز ثقل العملية الوطنية الفلسطينية من بلد عربي إلى آخر، من الأردن إلى لبنان، ليعود إلى الأراضي الفلسطينية مع الانتفاضة الأولى. وعلى الرغم من أخطاء كثيرة ارتكبت على المسار الطويل للتجربة الفلسطينية، سواء في لبنان أو الأردن، أو في إدارة الانتفاضة الأولى، فإن المشروع الوطني الفلسطيني، ممثلا بالوطن المعنوي، منظمة التحرير، بقي الأداة التوحيدية للفلسطينيين ومشروعهم. ولم تكن القراءة للاتفاقات الفلسطينية بوصفها فكّكت المشروع الوطني وحكمت أفق الحل بما آلت إليه التجربة الفلسطينية، وليس بما بدأت به، قراءة خاطئة. وبذلك فإن أفق الحل محكوم بالأرض الفلسطينية التي احتلت العام 1967، أي في الضفة الغربية وقطاع غزة. ولا ينطبق هذا على جغرافيا الحل فحسب، بل أيضا على الجغرافيا البشرية للقيادة الفلسطينية التي انتقلت إلى الداخل الفلسطيني، بمسار لا عودة عنه.
فما جرى في الأراضي الفلسطينية أسّس لمرحلة جديدة، اختلفت جذريا عن المرحلة السابقة، مرحلة تم التأسيس لها من خلال تغيير أسس النظام السياسي الفلسطيني، بعد انتقال القيادة الفلسطينية إلى الداخل. وإذا كان هذا الانتقال تم عبر القيادة الفلسطينية التاريخية التي مثّلها ياسر عرفات، فإن الانتقال بات معطى موضوعيا يرتب تغيرات حتمية على الصعيد الفلسطيني. كما أنتجت اتفاقات أوسلو نقلةً في الواقع الفلسطيني بمزيد من تفكيك المشروع الوطني، فإن الانقسام والاقتتال الداخلي بين غزة والضفة الغربية فكّكا حتى النظام السياسي الذي نتج من "أوسلو"، ما دفع هذا المشروع إلى الدمار. وإذا كان الرئيس محمود عباس يمثل القيادة الفلسطينية التاريخية، وحجر القفل في قوس القوى السياسية القائمة، على كل العيوب القاتلة التي دمغت فترة قيادته، فإن غيابه سينتج واقعا فلسطينيا جديدا، واقعا أكثر تشظيا، ولا شك في أن دور القيادة التاريخية قد انتهى، ويمكن القول: إنه مع غياب الرئيس عباس سيغيب عن الساحة السياسية الفلسطينية الحرس القديم في الحركة الفلسطينية، ويغيب معها المشروع الوطني نهائيا، وسيأتي حرسٌ جديدٌ، هذه المرة، من مركز النظام السياسي الفلسطيني المتشظي. وبوصفهم أصحاب النظام السياسي سيأتون من الإقليم الجغرافي للنظام الجديد، وهي المرة الأولى التي ستلعب الجغرافيا دورا حاسما في تحديد القيادة الفلسطينية المقبلة. ونقل الراية إلى الحرس الجديد دلالة على نقل السلطة والقرار السياسي إلى القيادة التي تنتمي إلى الداخل جغرافيا، وليست التي دخلت إلى الأراضي الفلسطينية بفعل الاتفاقات مع إسرائيل. ولكن هذا الحرس الجديد سيتصارع على فتات السلطة الفلسطينية، وستأخذ هذه الصراعات طابعا عشائريا يدور حول مصالح ضيقة لفئات مرتبطة خارجيا، وسيكون هذا الصراع الداخلي في ظل الاحتلال الإعلان النهائي عن انهيار المشروع الوطني الفلسطيني، والتحول إلى "روابط قرى" جديدة مرتبطة بالاحتلال.
سمير الزبن