الثقافي

"فلسفة الثورة" لـ غونار هيندريش: تصفية حسابات مع إدوارد سعيد

مُنطلقاً من مفاهيم أكريفوسيا، الإيتيقا، الإستيتيقا والميتافيزيقا

في كتابه "فلسفة الثورة" (منشورات زوركامب)، يحاول المفكّر الألماني غونار هيندريش (1971) تقديم تفسير فلسفي للثورة، خلافاً للتفسيرَين التاريخي والسياسي، مُنطلقاً من أربعة مفاهيم لكل منها مجاله الخاص به: أكريفوسيا (الحق)، والإيتيقا (السلطة)، والإستيتيقا (الجمال)، والميتافيزيقا (الإله). فالعمل يتساءل عن الحق الذي يؤسّس للثورة، وكيف يُؤثّر على الحياة في المجتمع الثوري، وعن التمظهرات الجمالية التي يتّخذها الفعل الثوري، وأخيراً عن علاقة الثورة بالإله. تُركّز هذه القراءة على النقطة الأخيرة؛ أي على العلاقة بين الدين والثورة.

رغم أن الكتاب جاء، كما يُخبرنا صاحبه في مقدّمته، بمناسبة الذكرى المئوية لثورة أكتوبر (1917)، والتي لا يعتبرها ثورةً روسية محضة، بل ثورة تندرج في التقليد الشيوعي للطبقة العمّالية الأوروبية حملت على عاتقها الوفاء بوعود الثورة الفرنسية التي ظلّت معلّقة، فإنه لن يقتصر على دراسة هذه الثورة.يفهم هيندريش، في مقدّمة عمله، الثورة باعتبارها تعطيلاً للقواعد. ولأن القواعد ليست معطاةً بشكل طبيعي، إذ إنها من عمل الإنسان، فإن الإنسان يملك حق تجاوزها إذا وقفت ضدّ حريته. الثورة هي بذلك تأكيد حرية اجتراح القواعد. لكن كلّما جرى النظر إلى المجتمع باعتباره طبيعة، وذلك بغض النظر عمّا إذا كان الأمر يتعلّق بطبيعة أولى أو ثانية، يصبح كل تمرّد على القواعد بمثابة خروج على الطبيعة.

تضع الثورة حدّاً لهذه التبعية، ويظهر المجتمع فيها باعتباره مجتمعاً وليس باعتباره طبيعة؛ فـ "الثورة شيء غير طبيعي"، والفعل الإنساني شيء غير طبيعي أيضاً، بمعنى أنه لا يمكن تفسيره وفقاً لقوانين الطبيعة. وفي هذا السياق، تُعتبر السيادة في الدولة الديمقراطية ممارسة للإرادة العامة، فهي ليست سيادة طبقة على طبقة أو حاكم على شعب، بل هي تعبيرٌ عن التضامن والاتفاق بين كل أعضاء المجتمع. وهو ما عبّر عنه روبسبيير في خطبته حول إعدام الملك. فالنظام القديم لم يعرف سيادة الإرادة العامة بل سيادة الفرد، وسيادةُ الفرد تُجهِز على العقد الاجتماعي. ولهذا، فإن حكومة هذا الملك لا تملك أساساً قانونياً، وعلاقةُ الشعب بها ليست علاقة قانونية اجتماعية. "الملك يوجَد دوماً خارج القانون"، ولهذا، وكما عبّر روبسبيير، لن نكون مضطرّين إلى محاكمته قانونياً.

يعود هندريش إلى جان جاك روسو وإيمانويل كانط وكارل ماركس، من أجل تفسير الثورة باعتبارها قطيعة مع القانون القائم ومع الخضوع المعتاد للقواعد. فمع روسو، سيُفكّر في الشعب باعتباره ذاتاً قانونية، تتمظهر إرادته العامّة في الثورة باعتبارها مؤسّسة للقانون. أمّا الواجب الأخلاقي لدى كانط، فهو يتشابه بُنيوياً مع الإرادة العامة لدى روسو، فمعه يتعلّق الأمر أيضاً بتشريع عام، يتأسّس على الإرادة المحضة. لكن وفي الوقت الذي لم يصل كانط إلى الحديث عن حقّ في الثورة، سيتحقّق ذلك مع فيشته، وبشكل أكبر مع ماركس والماركسيّين.

مِن القاعدة التي صاغها يوهان فيشته والتي تقول: "لا تمنع حريةَ أحد، ما دامت لا تمنعك"، سيشتق فيشته، وبخلاف كانط، الحقَّ في الثورة، مُطوّراً نظريةً للحقوق الذاتية عبر الربط بين المعيار السياسي والمعيار الأخلاقي. لكن، إذا ما عملت دولة معيّنة ضد ذلك، "فإنها لن تكون دولة، إنها جهنم، ويتوجّب على الناس أن يحرّروا أنفسهم منها ويدمروها"، كما كتب يوهان بنيامين إرهارد في كتابه "عن حقّ الشعب في الثورة". إنه يرى وجود ثلاثة حقوق لا تقبل المساومة: الحق في الحرية، المساواة، والاستقلالية. وإذا وقفت الحكومة ضدّ هذه الحقوق الثلاثة، تصبح الثورة واجباً أخلاقياً.

 

من نفس القسم الثقافي