الثقافي

في بلاد فارس..السير شاردان صائغ المجوهرات في قصر الشاه

تشكل بلاد فارس هماً حاضراً عند جميع الرحالة الذين دخلوا إليها

تتمثل أهمية "رحلات في بلاد فارس" التي قام بها الرحالة الفرنسي السير جون شاردان إلى بلاد فارس، والتي كانت تحت حكم السلاطين الصفويين، في كونها تقدم وثيقة تاريخية غاية في الأهمية عن تلك المرحلة الحاسمة من القرن السابع عشر، والتي عرفت بروز ظاهرتين مميزتين.تتمثل الظاهرة الأولى في تراجع دور القوى الاستعمارية التقليدية، وعلى وجه الخصوص، القوتين العالميتين في ذلك الوقت، والمقصود بهما الاستعماران الإسباني والبرتغالي، واللذان اكتسحا مناطق كبيرة من العالم، حتى وصلا إلى العالم الجديد، أميركا... وكان كل ذلك يجري تحت مسمى "الاكتشافات الجغرافية الكبرى"، والتي هي في جوهرها الأساس، حملات عسكرية منظمة، الهدف منها البحث عن الثروات الجديدة في المستعمرات تحت قوة البارود ونيران المدافع.

الظاهرة الثانية، وهي ذات أهمية بالغة في المعادلة الدولية في تلك المرحلة، وهي ظهور قوى جديدة ناهضة، لا تختلف من حيث المؤدى عن الإسبان والبرتغاليين، لكنها هذه المرة، وبدل أن تستغل تفوقها الملاحي في تعبئة الجيوش، جعلت الهدف التجاري نصب أعينها، دون أن تغيب الحملات العسكرية التي وجهتها إلى المناطق التي تطمح في السيطرة عليها، لتمهيد الطريق أمامها للاكتساح التجاري، ومن بين هذه القوى الناهضة، الهولنديون، الذين سيتحولون إلى سادة البحار، مع الدنماركيين، حيث عرفت ملكياتهم نهضة قوية، قدمت نفسها كبديل للاستعمار القديم.علاوة على الطموح الفرنسي المتنامي بعد الخروج من حرب الثلاثين سنة، حيث سيشهد العالم حملات نابليون العسكرية بعد ذلك. فنابليون الذي كان قد ولد في تلك السنوات (1769)، يبعد مولده بقرن عن الرحلات الهامة التي قام بها السير شاردان إلى بلاد فارس، تحت ستار تاجر مجوهرات في قصر شاه إيران، عباس الثاني، الذي تبناه كممثل تجاري له، وهو ما خوله القيام برحلات طويلة إلى بلدان الشرق الأقصى، وبالأخص القوقاز وجورجيا.

السير شاردان، اكتسب لقبه عندما فر من فرنسا إلى إنكلترا، حيث منحه إياه الملك شارل الثاني، كما عينه صائغ مجوهراته ومفوضا له في هولندا، وعُيّنَ أيضاً عضواً في الجمعية الملكية البريطانية.

تشكل بلاد فارس هماً حاضراً عند جميع الرحالة الذين دخلوا إليها، تحت صفات متعددة، مرسلين من طرف دولهم، خصوصا نشاط الرحالة البريطانيين والهولنديين، الذين حاولوا فك أسرار هذا العالم الغريب من الشرق القديم. عالم ممتد ومتجذر في التاريخ، بثقافته العريقة وغناه الروحي، يشكل الإسلام دينه المركزي، وتدخل تحت جبته عرقيات كثيرة ومتنوعة.

تؤرخ هذه الرحلة للمسافة الزمنية بين 1673 وسنة 1676، وسجل فيها السير جون شاردان مشاهداته في بلاد فارس، وتوقف بدقة عند آلية الحكم في الإمبراطورية الفارسية، كما وصف الأطماع التي كانت تتهددها من جميع الجهات وخصوصاً الأطماع الخارجية، حيث توجهت إليها الأنظار من طرف الفرنسيين والإنكليز والدنماركيين والهولنديين، علاوة على محاولات سابقة للبرتغاليين للوصول إلى الخليج العربي واليمن والسيطرة على المعابر البحرية الأساسية.

لكن الرحلة بقدر ما تكشف عن معالم التداعي التي ستلحق الإمبراطورية الفارسية، فإن شاردان يرصد حيزاً وافياً من مشاهداته للحياة داخل قصر الشاه، وتخبط الحاشية، وفسادها. وهو يسجل أيضا، القدرة التي توفرت لدى حكام فارس في استدراج خصومهم السياسيين الخارجيين إلى لعبة مساومات لا تنتهي. لعبة لا يعرفها جيداً إلا تاجر السجاد، حيث في الغالب الأعم يخرج من معاركه مع خصومه ومنافسيه رابحا وبأعلى الأرقام، وهذا ما حصل مثلا مع الهولنديين، الذي أرادوا اكتساح إيران تجاريا، لكنهم فشلوا في ذلك، بسبب مهارة الشاه في إبرام اتفاقات تجارية تقدم السم في الدسم، وتسقط الطامعين في حبائل الخسارات.

 

من نفس القسم الثقافي