الثقافي

لوران كوفيه: "تدجين الفن" وحكاية اغترابه

يفكك المنطق اللبرالي الجديد الذي يتحكم في الفن اليوم

بعنوان "تدجين الفن"، أصدر الكاتب الفرنسي لوران كوفيه آخر أعماله، وهو أقرب إلى صرخة حول واقع الفن ومستقبله منه إلى دراسة سوسيو-تاريخية. ولهذا الإصدار خصوصيته التي تكمن في أنه نبع من تفكير صاحبه المباشر في ممارسته لمسؤولياتٍ إدارية في دار النشر Aldante ومن معرفة حميمة بالميدان الفني في فرنسا.

فالرجل يتابع شؤون المهرجانات واللقاءات والتظاهرات الفنية منذ 1994 تنظيمًا وإشرافًا ومشاركة، ويتحرّك بين أكثر من مجال: قطاع الكتاب، وإنتاج الأسطوانات الموسيقية، والفنون التشكيلية، والتأليف، وقد سبق له أن أصدر معجماً بعنوان "مئة مفردة عن الفن التزييني".

بفضل هذا الاشتباك العملي، كأننا بكوفيه قد أراد أن يعرّيَ الكواليس الخلفية لإشراف الدولة على قطاع الفن، بعد أن أصبح جزءًا من صلاحياتها الأساسية وشأنًا من الشؤون التي "ترعاها"، مثلما ترعى أمور الاقتصاد ومضامين المقررات الدراسية وأمن المواطنين ونظام معيشتهم.

أولى العتبات التي نلج منها إلى أفكار كوفيه عنوانه "تدجين الفن"، وهو جريء ذو نزعة نقدية لا يخطئها المتلقي. ورغم أن الكتاب ينغمس كلية في الشأن الثقافي الفرنسي، والأوروبي بشكل أوسع، فإنه بالنسبة لنا كقرّاء عرب، مناسبة لمراجعة مسلّمات من قبيل استقلالية الفن في أوروبا، وهو اعتقاد ناجم بلا شك من شعور بالقبضة الحديدية التي تسيّر بها الأنظمة العربية مجالات الثقافة، غير أننا نكتشف، في كتاب كوفيه، أنَّ قمعَ الفن وتدجينَه واحدٌ وإن تعدّدت الوسائل والمناهج.

بوضوح، يشير المؤلف إلى أن أهم ظاهرتيْن باتتا تميزان العلاقة بين السلطة والفن هما الترويض والاستعباد: ترويض الفنان حتى لا يخرج عن ولي نعمته، واستغلال ثمار فنه في دعم السلطة وتمجيدها. فقد صارت الفنون بأنواعها دولابا ضمن الدورة الاقتصادية وذريعةً يتوسل بها أرباب الأعمال والمال من أجل توفير الأرباح وتكثير الفوائد.

هذه الرؤية فرضت على الكاتب تفكيكَ المنطق اللبرالي الجديد الذي صار يتحكم في الإنتاج الفني، يوجه أشكالَه ويلوّن مضامينَه. حتى أن الفن اليوم، ورغم حيويته الظاهرة وبياناته الثورية وما بعد الحداثية، أصبح أكثر من أي وقتٍ مضى، ألعوبةً بين يدي السلطات السياسية تهيمن بها على العقول، بعد أن هيمَنت هي عليه.قد يوحي العنوان، في الوهلة الأولى، بأنّ الفنان، في حد ذاته، بمعزل عن هذيْن المسارين: الترويض والاستعباد، فالمستَغَل والمروَّضُ ليس هو وإنما الفن، الذي بات خاضعا بالكلية لهذا التدجين. ولذلك، يركز الباحث، في عمله هذا، على الطريقة التي اغترب بها الفن عن ذاته، وأضاع خصوصيته، فصار ألعوبَةً وفَقَد ما كان يمثل عنصر القوة فيه: الحرية وروح التمرد.

فالفن في ماهيته، والشعر على وجه الخصوص، إنما هو طاقةٌ على تعرية آليات السلطة وكشف أقنعة الاستغلال والهيمنة. ولغته القوية هي التي تفضحُ وحدها تلاعب الساسة وأحابيل ذوي السلطة التي تفتك بالإنسان وبحريّته. الشعر، كما يقول الكاتب: "أداة مقاومةٍ، تواجه السيطرة، وتصمد أمام المقولات الذهنية والممارسات التي تتضمنها لغة السلطة، ولذلك، تخترع لغةً مغايرة، ومقولات وممارسات مختلفة"، وهذه هي وظيفة الفن التي تجرّدها منه دواليب السلطة بعد أن أوقعته في الاغتراب.

 

من نفس القسم الثقافي