الثقافي
جوزيف كوديلكا: بعد الحرب خلف الجدار
تظهر العزلة القسرية بدلاً من البشر في صور الجدار
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 23 سبتمبر 2018
تسع عشرة صورة التقطت في بيروت عام 1991، وفلسطين بين عامي 2008 و2012 بكاميرا المصور التشيكي جوزيف كوديلكا (1938)، تعرض حالياً في "دار النمر للفن والثقافة" في بيروت، بالتعاون مع وكالة "ماغنوم للصور"، التي انضم إليها الفنان عام 1970.
حين يذكر اسم كوديلكا لا يمكن إلا أن نتذكر الصورة التي تظهر فيها الساعة على ذراعه، لتشير إلى الوقت قبل ساعات من اجتياح براغ من قبل الاتحاد السوفييتي عام 1968. ما يجعل الصورة استثنائية أنها تصور الترقب وتحدس بما هو آت، فخلف الساعة ساحة براغ صامتة وخالية كالمقبرة.كان كوديلكا قبل ذلك التاريخ بعام واحد مهندساً، ولكنه ترك عمله وقرر التفرغ تماماً للتصوير، وحين وقعت الأحداث أخذ يلتقط الصور ثم يهرّب النيغاتيف منها إلى "سانداي تايمز" في لندن لتنشر باسم مستعار هو "PP" أي مصور براغ.
يعتبر كوديلكا أن نهاية ربيع براغ نهاية لحلمه أيضاً، أصبح العنف ينمو باستمرار، وكان المصور الشاب يعيش كل شيء بكثافة، ويشعر بهذه التراجيديا الوطنية بوصفها جرحه الخاص، والتي وصفها مرة بأنها أعلى نقطة ألم وصل إليها في حياته، والصور التي التقطها في تلك الفترة ليست للمدينة وحسب بل إنها قصته الشخصية.
بعد عامين من براغ 68، غادر إلى باريس وانضم إلى وكالة "ماغنوم" التي ما زال يعمل فيها إلى اليوم، التقط الصور من أيرلندا إلى صقلية واليونان ورومانيا وإسبانيا متجولاً في أوروبا كلها، قبل أن يبدأ في التنقل خارجها فزار بيروت مع نهاية الحرب الأهلية عام 1991، بهدف تصوير وسط المدينة ما بعد الحرب، حيث الجدران المرشوقة وبقايا الحواجز تُظهر لنا مدينة مثقبّة جرى التنكيل بها، إنها ليست صورا لنهاية الحرب وحسب أو لما يمكن للحرب أن تفعله بالمكان، بل إنها صور يبدو معها المستقبل مخيفاً ومهدداً بالتكرار.
بعد ذلك بسنوات، سيحمل المصوّر الفنان كاميراته ويذهب إلى فلسطين ليلتقط صوراً للجدار الإسرائيلي، المظهر الأفظع والأعنف للفصل العنصري في القرن الواحد والعشرين. صور الجدار بانورامية، جرداء، لا يظهر البشر فيها، بدلاً منهم تظهر العزلة القسرية.
عن هذه المجموعة يقول "كبرت خلف جدار، لدي علاقة خاصة بالجدار، وقضيت طيلة حياتي وأنا أريد أن أذهب إلى الجهة الأخرى، أردت الهروب من الحاضر، وأظن أن كل من يعيش خلف الجدار لفترة من حياته يكون لديه نفس إحساسي، الجدار جريمة ضد الإنسانية، وهو أيضاً جريمة ضد الجغرافيا، الناس يمكنهم أن يحرروا أنفسهم إنما التضاريس ليس بمقدورها أن تفعل ذلك، وفي نظري هذه جريمة ضد الأرض المقدسة".
تظهر حالة التجوال في أعمال أشهر فناني الصورة الصحافية باستمرار، ثمة عراء في صوره أياً كان مكانها، وقد يرتبط ذلك بوجوده لعقود في المنفى، بعيداً عن المدينة التي يحبها وينتمي إليها. أما التجوال فقد أصبح سيرة كوديلكا؛ سافر في السنوات الأولى من عمله حاملاً حقيبة ظهر وكاميرا، ينام في أي مكان؛ حديقة عامة أو مقعد في مكان عام، ويعيش على الحليب والخبز، ليوفر كل ما يملك لشراء الأفلام والإنفاق على التصوير والتنقل.
تتأمل أعماله علاقة الإنسان بالمكان والفرد بالجماعة، سواء كانت تدميرية مثل تلك التي رأيناها في براغ وبيروت وفلسطين، أو عفوية مثل صور الغجر في رومانيا- التي صدرت في كتاب- وفي مصح للأمراض العقلية في إيطاليا. ثيماته الأساسية هي العزلة والبرد والموت وقسوة الجموع على الفرد؛ هل نذكر تلك الصورة لرجل مقيد اليدين يبدو عليه الجوع والذنب، في بقعة قاحلة، وخلفه من بعيد تظهر مجموعة من الناس يتفرجون عليه؟
لا يعتبر كوديلكا نفسه مصوراً بل "رجلاً عاملاً"، يكد لينجز العمل على أحسن ما يكون، ومشكلته "أصور ما أحب وأريد تصويره، لكن معظم ما ألتقطه مؤلم، أحاول أن أكون مصوراً، لا أعرف كيف أتكلم، لست مهتما بالكلام، إن كان لدي شيء أقوله فربما يمكن العثور عليه في صوري، لست مهتماً بشرح الأشياء، وأن أقول كيف ولماذا".