الثقافي

"مقدّمة لدرس لغة العرب": من يستكمل المتن؟

على الرفّ

في أروقة الأزهر، تلقّى عبدالله العلايلي (1914 - 1996) تكويناً لغوياً ودينيّاً متيناً، ولكن تقليديَّ المنهج، لا تكاد تربطه صلة بفترة ما بين الحربَين ورهاناتها الجوهرية.هكذا، كان إنتاجه، الذي تتالى من ثلاثينيات القرن حتى وفاته، استمراراً لآثار العلماء التقليديين، وفي الآن ذاته تجاوزاً لهم، ولا سيما بعد أن تمكّن من خفايا أنظمة الضاد الصوتية والصرفية والدلالية وتضلّع ممّا وضعه عنها اللغويون القدامى. كما درس بعض اللغات الأجنبية واطّلع على النظريّات الحديثة في التأريخ والاجتماع وسائر مذاهب الفكر.

وبعد أن أتم عُدّته من هذه الفنون، تصدّى المفكّر اللبناني لمهمّة تطوير اللغة العربية وتغيير مناهج دراستها. فكان من ثمار تأمّلاته اللغوية: "مقدّمة لدرس لغة العرب وكيف نضع المعجم الجديد"، الذي صدر عن "المطبعة العصرية" سنة 1938. وقد وضعه على غرار "المقدّمات"، بما هي خطاب تأسيسي لعلم جديد يقوم على أنقاض الرؤى السابقة وبيان تهافتها.

استهلّ صاحبُ "المَعرّي ذلك المجهول" كتابه هذا بمهاجمة الرجعية النحوية، المتمثّلة في تزجية الأوقات النفيسة في تقديرات إعرابية، لا طائل من ورائها، مُعتبراً ذلك خيانةً في حقّ الضاد، وتهاوناً عن واجب تجديدها، حتى تكون قادرةً على استيعاب العالَم الحديث، والدلالة على مكوّناته: أشياء ومفاهيم.انطلق في تحريره لهذه المقدّمات مشدّداً على "أنَّ الضرورة أصبحت تدعو إلى منهج دراساتنا اللغوية وطريقة قياسها في الوضع والاشتقاق وما يتبعه من أشكال الاستعمال"، فليس إصلاح اللغة ومناهج دراستها وطرق التعبير بها وعنها من الترف الذهني في شيء، بل هو قضية حياة أو موت بالنسبة إلى الضاد، بعد أن باتت العاميات تحاصرها من كل جانب، والألسن الأجنبية تتربّص بها دون هوادة.

ولإنجاز هذه المهمّة التأسيسية، ارتأى المفكر اللبناني تقسيم "مقدّمته" إلى ثلاثة أقسامٍ: سعى في القسم الأول إلى "تحقيق أن دلالة الكلمة، في اللغة، على المعنى الحاصل في خيال المستعمِل دلالة مقايسة وموازنة".وفي القسم الثاني، استعرض تاريخ النشوء اللغوي وتطوّر اللغة العربية عبر مراحل صوتية ودلالية.وتناول في الجزء الأخير قواعد الإعلال والإبدال والترادف والسماع والاشتقاق والترادف... ضمن ثلاثين مبحثاً صرفياً ونحوياً ودلالياً، والمباحث من أنفَس ما كُتب في العصر الحديث، فكان الكتاب، في جملته، وصفاً ألسنياً جمع بين المنظور الدياكروني (الزمني) والمنظور السانكروني (البنيوي) للضاد على مدى تعاقب العصور، عارضاً له بخطابٍ علمي، وإن تخلّلته بعض الأحكام المعيارية التي انبثّت هنا وهناك، ربما بحُكم تكوينه التقليدي.

وختم الكتاب بنماذج من مداخل معجمية استحدثها هو بنفسه ورتّبها ضمن مشروع معجمه الجديد "المَرجع"، والذي لم يكتمل في حياته. وقدّم تلك المداخل كلبِنات أولى، تقوم على مبدأين: "توحيد المعاني في المادة الواحدة"، أي جعل كل معاني المشتقّات، مَزيدة أو مجرّدة، من ضمن معاني المادة. وتخصيص "الموازين بمعان وتأديات تقوم بها مقام اللواحق في الأجانب وإحلالها بتأديات بعينها قارة".

وتفصيل هذا المبدأ، الذي قد يبدو مجرَّداً لغير المختصّين، هو أن يستقلَّ كلُّ وزن من أوزان الأفعال (من فَعلَ إلى استفعل)، وكذلك الأسماء (الفاعل والمفعول والمصدر والمكان والآلة والهيئة والمرة...) بمعنًى معيّنٍ ثابتٍ. وهذا المعنى الخاص هو الذي يُراعى في توليد الكلمات المستحدَثة. وهكذا يكون تطوير مفردات العربية بالعودة أولا إلى دلالات الجذور والاستناد ثانيًا إلى دلالات الصيغ والأوزان. فلفظة "حاسوب"، المقابلة لــ Computer مثلاً، هي وليدة تلاقي صيغة اسم الآلة "فاعول" مع دلالة الحِساب الثاوية في جذر (ح. س. ب) ومادّته.

 

من نفس القسم الثقافي