الثقافي

الرحلة الشامية.. محمد علي باشا مفتوناً بلبنان وسورية

على الرفّ

في سنة 1910 سيقوم الأمير محمد علي باشا برحلته إلى سورية، والتي حملت عنوان "الرحلة الشامية". وقد بدأ محمد علي باشا رحلته في تلك السنة منطلقا من بور سعيد. ووفق محقق الكتاب علي كنعان، فإن زمن الرحلة لن يستغرق أكثر من شهر واحد.وأهمية رحلة محمد علي باشا إلى الشام تتأتى من كونها، رحلة من الداخل ومتوجهة نحو الداخل. وليس مثل الرحالة العرب الآخرين، الذين كانت رحلاتهم نحو الخارج، وبالتالي كان من الطبيعي جدا، أن يغلب على رحلته الشامية منطق، الواحد المتعدد، وأن تجيء بالتالي أقرب إلى السفر الداخلي منها إلى الرحلة التي تفرز ثنائيات التضاد والاغتراب.

لكن الأشد غرابة في رحلة محمد علي، هو الغرض المعلن من ورائها، فهي ليست رحلة استكشافية بالمعنى العلمي للكلمة، وليست رحلة سياحية ومعرفية، ولا غاية سياسية لها، ولكنها رحلة من أجل الاستكشاف والبحث عن أجود الخيول الأصيلة، فقد كان محمد علي مغرما أيّما غرامٍ بالخيول العربية الأصيلة وأنسابها.

وقد أورد علي كنعان، محقق الرحلة في مقدمتها ما يشير إلى هذا الاعتقاد، ونصص عليه عندما يقول "إنها رحلة أمير رحالة يعشق الخيل والبطولة والطراد والأسفار، كما يعشق العلم والأدب والتاريخ، وهو يحلم أن يرى أمته في طليعة الأمم عزة واتحادا وتقدما وازدهارا".

هل ما ذهب إليه علي كنعان هو حقا ما تضمره هذه الرحلة الشامية؟ أم أن صاحبها الأمير محمد علي، كانت له أهداف أخرى، غير البحث عن الجياد العربية الأصيلة التي كان يحبها، بل ملاقاة ملاكها ومربيها من العرب الأصلاء، الذين ما تزال في دمائهم بعض نداءات العروبة الأصيلة وصهيلها. إنها، جملة وتفصيلا، رحلة ظاهرها البحث عن الخيول، لكن باطنها أعمق من ذلك، تذهب في اتجاه البحث عن نداءات العروبة وجس النبض في بلاد الشام، وكأنه كان يقوم باستفتاء صغير حول إمكانية توحيد العرب في تلك الفترة السياسية الحاسمة من النير الاستعماري، ومدى استنهاض الهمم وشد العزائم.

من المهم الإشارة إلى أن محمد علي باشا كان يقابل بالترحاب في رحلته الشامية، سواء من قبل المسؤولين وكبار القوم، أو من قبل الناس العاديين، وهذا يعود إلى الرغبة في إكرام وفادته وإلى مكانته الرمزية عند أهل الشام، وأيضا لمكانته السياسية، فقد ظل لاعبا رئيسيا في الحياة السياسية المصرية وفي مسار انتقال العرش بعد وفاة الملك فؤاد الأول، ذلك أنه كان في مجلس الوصاية، وكان وليا للعهد مرتين، وكاد أن ينصبه الإنكليز ملكا لمصر غير أن الظروف لم تسعفه.

ما يميز رحلته إلى الشام أيضا، هي أنها مليئة بالمعلومات التاريخية، بعضها صحيح وبعضها الآخر "متخيل"، ولكن رغم كل هذا، فهي رحلة مهمة، لأنها ترتبط بتلك الفترة الحساسة من تاريخ العرب، وتاريخ الشام على وجه التحديد، حيث تراجع النفوذ العثماني وتقهقر، لصالح الحضور الدولي، الفرنسي والإنكليزي والأميركي.

فعند وصله إلى بيروت في تلك السنة، 1910، كانت المدينة أشبه بمدينة دولية، تعج بأخلاط بشرية من الأجانب، وتضج بالمخبرين الدوليين، وتشكل قاعدة ضرورية للانطلاق نحو شيء آخر.

كانت بيروت في تلك الفترة زاهرة وزاخرة بالبشر ومنفتحة ومتسامحة، وتضم خليطا متجانسا بين كل مكوناتها، وكانت قد حطت بها عدة مدارس أجنبية مثل الكلية الأميركية والمدارس الفرنسية وغيرها ومدارس اليسوعيين، وكانت تعتمد جميعها على نظام تدريس حديث، يحكي محمد علي عن إحدى زياراته في رحلته تلك لهذه المدارس "وكان بين هؤلاء الوافدين بعض طلبة المصريين في كلية الأمريكان ومدرسة اليسوعيين، فاستقبلناهم بما سليق بهم من الحفاوة والإكرام، وقد مكثوا في مجلسنا زمنا غير قليل، كان حديثنا في أثنائه يدور غالبا على نظام التدريس والتعليم في المدارس والكليات النظامية، وكنت أشجعهم على طلب العلم وأحثهم على المثابرة والجد في تحصيل الواجبات المدرسية على شريطة أن يقرنوا خطاهم في سبيل تلك الغاية الشريفة بالنيّة الصحيحة والفكرة الصالحة".

 

من نفس القسم الثقافي