الثقافي
جون برجر.. "طرق الرؤية" المدهشة
على الرفّ
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 26 جوان 2018
يعتبر كتاب "طرق الرؤية"، الذي يضم محاضرات قدمها المؤرخ والناقد الفني البريطاني والروائي والشاعر الراحل جون برجر (1926-2017)، على شكل برنامج سمعي بصري لصالح قناة "بي بي سي"، واحداً من العلامات البحثية والنقدية الفارقة في تاريخ الكتابة للفن التشكيلي، وفي ظهور المقاربات التحليلية السيميائية الجديدة التي تتعامل مع اللوحة ومع الدراسات السوسيولوجية التي تتعلق بالفن التشكيلي في علاقته مع المجتمع.
يتألف الكتاب - الذي أنجز ترجمته العربية الكاتب السوري زياد عبد الله (دار المدى) في نفس سنة رحيل صاحبه عن عالمنا - من سبع مقالات مرقمة، ويمكن قراءتها بأي ترتيب، أربع منها تستخدم الكلمات والصور، وثلاث تستخدم الصور فقط، أي أنها مقالات مصورة خالصة (في طرق رؤية المرأة وفي السمات المتناقضة لتقليد اللوحة الزيتية) وهي تسعى إلى إثارة أكبر قدر من الأسئلة كما لو أنها مقالات شفاهية.ينطلق برجر من أن "الرؤية تسبق الكلمات. ينظر الطفل ويدرك قبل أن يكون بمقدوره الكلام، لكن هناك معنى آخر لكون الرؤية سابقة للكلمات. إنها رؤية ما يؤسس مكاننا في العالم المحيط، نشرح العالم بالكلمات، لكن الكلمات لن تلغي حقيقة أننا محاطون به. والعلاقة بين ما نرى وما نعرف لم تحسم يوماً. نرى في كل مغيب الشمس، نعرف أن الأرض تفارقها، هذا عدا أن المعرفة، التوصيف، لم ينسجما تماماً مع البصر".
في المقالة النصية الأولى يناقش برجر الأساليب التي تستقبل فيها الصورة بصرياً من قبل المتلقي: "تتأثر الطريقة التي نرى بها الأشياء بما نعرفه وبما نعتقد به. عندما كان الناس في القرون الوسطى يؤمنون بالوجود المادي للجحيم كان مشهد النار يعني لهم شيئاً مختلفاً عما يعنيه لنا اليوم. ما إن ننظر حتى نعي بأننا يمكن أن نكون موضوعاً للنظر أيضاً. تندمج عين الآخر مع أعيننا بما يضفي مصداقية كاملة على كوننا جزءاً من العالم المرئي. كل صورة هي نظرة أعيد خلقها وإنتاجها. إنها ظهور، أو مجموعة من التمظهرات، اقتطعت من المكان والزمان وقد ظهرت وحفظت فيهما".
يوضح برجر التغيرات التي أدخلتاها آلتا التصوير الفوتوغرافي والسينمائي على مفهوم المنظور الذي نشأ وترسخ في عصر النهضة، ومن ثم تعرض إلى التغيرات والتحولات مع ابتكار الكاميرا الفوتوغرافية والسينمائية: "قامت آلة التصوير الفوتوغرافية بعزل المظاهر الآنية للأشياء، وبذلك دمرت فكرة ديمومة الصور. وبطريقة أخرى، أظهرت آلة التصوير أن فكرة الزمن العابر ليست مسألة منفصلة عن التجربة البصرية (باستثناء اللوحة الزيتية)".ويضيف برجر عن المنظور "إن ما تراه يعتمد على موقعك عندما رأيته، وله علاقة بوضعك في الزمان والمكان. لم يعد ممكناً تخيل أن كل شيء يتجه ويتلاقى في العين الإنسانية كما يتجه ويتلاقى عند نقطة التلاشي في اللانهاية. ليس معنى هذا أن الناس قد آمنوا قبل اختراع آلة التصوير أن باستطاعة كل إنسان أن يرى كل شيء. لكن المنظور قام بترتيب المجال البصري كما لو أن ذلك هو النموذجي فعلاً. كل رسم أو لوحة استخدمت المنظور، أوحت للمشاهد بأنه المركز الفريد للعالم. لكن آلة التصوير الفوتوغرافية، والسينمائية على الخصوص، أظهرت أنه لم يعد هناك مثل هذا المركز".