الثقافي

رحلة أبي طالب خان..من الهند إلى الدنمارك وإنكلترا

على الرفّ

تمثل رحلة أبي طالب خان، التركي الذي ولد في أصفهان، وهاجر رفقة عائلته إلى الهند، هرباً من شاه إيران، إلى كل من إنكلترا وفرنسا وإيطاليا ومالطا وتركيا والعراق، نموذجاً للرحلة الشاملة، التي يقوم بها رحالة شرقي إلى البلاد الأوروبية، وبالضبط في تلك المرحلة التاريخية المهمة، سنة 1799، التي تزامنت مع الثورة الفرنسية، على الصعيد الأوروبي، وكذلك مع بروز الوهابية واجتياح هذا المذهب لبلاد العراق.

الرحلة تعرف بـ "رحلة أبي طالب خان"، وقد صدرت في عدة طبعات مترجمة من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية، على يد المترجم العراقي المتمكن مصطفى جواد، خريج السوربون في الأربعينيات من القرن الماضي، وأحد أعلام الثقافة العربية والعراقية ومربّي الملك فيصل الثاني، في المقدمة التي وضعها الدكتور مصطفى جواد، للكتاب، نقف على عدة جوانب خفية في حياة أبي طالب علي خان، هذه الشخصية المغامرة، شمولية المعرفة، والذي استطاع أن يسبر غور المجتمعات التي زارها في رحلته، كما يكشف جوانب الظرف وحب خوض التجارب الخاصة في هذا الرجل، الذي كانت رحلته وكأنها رد على رحلات المستشرقين، الذين كتبوا استناداً إلى منظور عجائبي لا يوجد إلا في عقولهم، مستمد من قراءات لألف ليلة وليلة، التي تصوّر العالم السحري للعربي، النائم في غرف الحريم، والمحاط بالندماء وشلة اللهو.

يقدم أبو طالب خان رؤيته للمجتمع الأوروبي في القرن التاسع عشر، ويصف تحرره، وانفتاحه، وعاداته المستجدة عليه، ويقارن بين ما هو موجود في المجتمعات الشرقية وما توجد عليه هذه المجتمعات التي وفد إليها، ثم يفحص النظرة إلى الغريب من قبل الإنكليز والهولنديين والإيطاليين الذين التقاهم، بمختلف مراتبهم الاجتماعية والمهنية وألقابهم الشرفية.

يقول "رحلة أبي طالب خان من نوادر الرحل في العالمين في موضوعها وأسلوبها وبراعة كاتبها وشمول ملاحظاته، فالمألوف في عصره وقبله وبعده أن الأوروبيين كانوا يسيحون في بلاد الشرق ويكتبون في وصفه رحلاً وفي آثاره كتباً، ولا نزال نتسقط أخبار الشرق المتأخرة من رحل الأوروبيين فيه وخصوصاً أخبار العراق، أمَّا أنَّ شرقياً يسيح في بلاد أوروبا ويصفها هذا الوصف المسهب فيه، المحتوي على كلِّ غريب وطريف، فضلاً عن التأريخ السياسي الذي عاصره الرحالة، فهذا من أندر النوادر في عصره ولذلك أسرع الإنكليز والفرنسيون والهولنديون إلى ترجمة الرحالة إلى لغاتهم، لوجدانهم فيها أوصافاً ومباحث وأموراً خاصة ببلادهم لم يجدوها عند كتَّابهم ورحاليهم، فإنَّ أبا طالب كان نافذ الملاحظة، منعم النظر، مثقفاً ثقافة شرقية عالية، قلَّما يفوته ذكر شيء ممَّا وقع عليه بصره أو تناوله في أثناء السياحة فكره، وستبقى رحلته مثالاً لتأليف الرحلات والاستقصاء والشمول، ولقد أحسن تنظيمها وحبكها، والظاهر لنا أنه كتبها مذكرات منفردة فلمَّا عاد إلى بلاده رتَّبها ونظَّمها وأحسن تأليفها، وأحال عند الحاجة إلى الربط بين أجزائها وأنبائها على ملاحظات متأخّرة قبل أن يلاحظها ( ) كما أحال على ملاحظات متقدّمة لاحظها، ففي الأوليات دليل على أن التأليف وقع بعد الارتحال".

 

من نفس القسم الثقافي