الثقافي
دوستويفسكي في عامه الأخير.. هاوية السلطة والثورة
على الرفّ
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 23 أفريل 2018
لطالما شغل الروائي الروسي فيودور دوستويفسكي (1821 – 1881) النقّاد والمحللين النفسيين والمؤرخين في محاولة لفهم تلك الشخصية المضطربة؛ سواء في علاقته بالسلطة التي تمرّد عليها ذات يوم ثم عاد لينتصر لها وفق يوتوبيا يؤمن بها وحده تتضمّن طروحاته حول الإصلاح والعدالة، أو إيمانه الديني الذي يتماهى مع "اشتراكية" لا تعني أحداً غيره، وانتهاء بهاجس الموت الذي ظلّ يصارعه طيلة حياته.
المقارنات الدائمة بين كتاباته وبين تاريخه الشخصي لم تأت اعتباطاً، فربما تفرّد عن ألدّ منافسيه تورغينيف وتولستوي في زمانه؛ بأنه لم يأبه مطلقاً لفكرة القبول الاجتماعي، يتحدّث مع نفسه ومع المقرّبين منه وفي اللقاءات العامة بالحرارة والأفكار والجرأة ذاتها، وكان يعتقد أن مصيره كفرد والمآلات التي تحكم مجتمعه ودولته متطابقة إلى درجة لا يمكن الفصل بينها، وهذه ليست دراما من صنع مخيّلته بقدر ما استطاع أن يحظى بمكانة وتأثير تجلّيا في موكب جنازته.
لم تخرج جنازة أكبر قبلها في تاريخ روسيا القيصرية، ثلاثون ألفاً من رجال الحكم والكنيسة وأتباع التنظيمات الثورية السرية التي عادى صاحب "الشياطين" عنفها بكلّ أشكاله، سار كل فريق منهم خلف نعشه رغم عدم اتفاقهم على آرائه ومواقفه، بل تنازعوا عليها فوق قبره وظلوا يختلفون حولها حتى اليوم، بينهما قرّر في لحظة غامضة أن يتركهم ويذهب نحو موته وهو يردّد في شهوره الثلاثة الأخيرة أن انعطافة كبرى ستقع عمّا قريب في بلاده وفي العالم أيضاً."التأرجح على الهاوية: العام الأخير من حياة دوستويفسكي" عنوان الكتاب ألّفه مؤرّخ الأدب الروسي إيغور فولغين (1942)، والصادر حديثاً عن "الأهلية للنشر والتوزيع" في عمّان بترجمة موفق الدليمي، والذي يقارن بين روايات متعدّدة تناولت وقائع تلك السنة التي انتهت برحيل الكاتب الروسي الأبرز في ملابسات غامضة، وسط اضطرابات سياسية وأمنية واجتماعية كانت مقاربته لها حديث السياسة والصحافة والناس عامّة.يستعيد المؤلف التحوّلات الأساسية التي شهدتها سيرة صاحبها منذ أن أصدر روايته الأولى "المساكين" وينضمّ بعدها إلى "جمعية بتراشيفسكي" السرية التي تبنّت رؤية راديكالية للإصلاح، ليلقى القبض عليه عام 1849 ويحكم عليه بالحبس في سجن الأشغال الشاقة في سيبيريا لمدة أربع سنوات ثم بالخدمة جندياً، وهناك في معتقله سيعيد النظر في قناعاته السالفة ويخلص إلى استنتاجات معاكسة تماماً.
ورغم أن الكتاب مكرّس لعلاقات صاحب "الأبله" بعالم الثورة الروسية التي دارت فصولها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ومهّدت إلى سقوط الإمبراطورية القيصرية عام 1917، إلا أن تنظيراته حولها تتعلّق بمفارقة الوجود الإنساني ذاته، و"كيف على المرء أن يحمل عبء تجربة الحياة بنفسه"؛ العبارة التي لم يملّ من ترديدها.لذلك سنجد صدى تلك التجربة المكثّفة والحادّة والمعمّقة كما صاغها قبيل رحيله بين عامي 1880 و1881، تصلح لأن تُقرأ على الدوام في تدبّر وعيه المفارق لوجهة نظر الثوريّين، وبنفس القدر إن لم تكن أكثر لوجهة النظر الرسمية، تعبيراً عن شخصٍ لم ينتم إلى مؤسسة أو أيديولوجيا ويطوَّع لأي منهما، وربما قد يُفاجَأ المرء لفرط التشابه بين الأحداث التي عايشها وكان أحد أبطالها، وبين ما نعيشه في منطقتنا العربية خلال السنوات الأخيرة.