الثقافي

"الديوان الجزائري"... موسيقى مسكونة بالأرواح

موسيقا الديوان التي انتقلت مع أسواق تجارة البشر والملح والذهب لتحطّ رحالها في الجزائر

لم يحمل العبيد القادمون من أفريقيا السمراء أوزار العبودية فقط، ولكنّهم حملوا معهم أيضًا موسيقاهم في جيوبهم وحناجرهم وحركات أجسادهم، وغنّوا للحريّة والانعتاق والمعاناة أينما قذفتهم السفن، فبقيت أهازيجهم شاهدة على أنّهم مرّوا منذ قرون من هنا أو هناك، هكذا، سافرت موسيقا الريغي من كينيا إلى جاميكا، وأبحرت موسيقا الجاز من حقول الكونغو إلى ضفاف المسيسيبي، والأمر نفسه بالنسبة لموسيقا الديوان التي انتقلت مع أسواق تجارة البشر والملح والذهب لتحطّ رحالها في الجزائر، وأصبحت تعرف بموسيقى القناوة أو (الكناوة نسبة إلى غينيا) بالمغرب، أو السطمبالي في تونس وليبيا.

 

الذكر والأنثى والماية

 

تشكّل آلة القمبري الجزء الأهمّ في موسيقى الديوان؛ فهي على خلاف كل الآلات الموسيقية تُعتبر آلة وترية وإيقاعية في الوقت نفسه؛ إذ تستخدم للعزف والقرع معًا بتناغم كبير استجابة للحاجة الطقوسية التي تُستخدم لها، وربّما يبدأ العازف بالنقر عليها وتريًا وحين يصل إلى مستويات يكون فيها منسجمًا تمامًا مع الموسيقى يمزج بين الإيقاع والوتر، أو ربّما يتخلّى على العزف الوتري نهائيًا ويكتفي فقط بالقرع عليها. قد يصعب شرح الأمر بالنسبة لمن لا يعرف موسيقى الديوان، ولكنّها آلة يرتبط عزفها بطقوس روحانية تستجيب للارتجال والانتقال إلى حالات ميتافيزيقية تعتمد على مهارة العازف، وفي كثير من الأحيان تستخدم للعلاج الروحي حسب بعض المعتقدات المتداولة.

تُصنع آلة القمبري من صندوق خشبي مجوّف مستطيل الشكل بأبعاد محسوبة، ويغطّى بجلد الجمل أو البقر، بينما تُصنع أوتارها (ثلاثة أوتار فقط) من أمعاء الماعز، فيصدر عنها إيقاع رنّان ومدّوٍ، ويتمّ العزف على وسطها بأصابع اليد من دون الحاجة إلى أيّ أداة أخرى، حيث يخصّص إصبع الإبهام للضرب على الوتر الأعلى في المجموعة، أما بقية الأصابع فتستخدم للعزف على الوترين الآخرين، أما اليد الأخرى فتكون على مقبض الآلة حيث يُمكن توزيع النغمات.

تُقسّم أوتار القمبري بالترتيب من الأعلى إلى الأسفل تباعًا؛ يُسمّى الوتر الأعلى بـ "الذكر" والوتر الأوسط "الماية"، ويسمّى الوتر السفلي "الأنثى". يُضبط وتر"الذكر" دائمًا على النغمة الأعلى في السلّم الموسيقي؛ فإذا كان مثلًا الذكر مضبوطًا على نغمة صول الكبير، يكون وتر "الماية" مضبوطًا على نغمة صول المنخفض، أما وتر "الأنثى" فيضبط على نغمة دو. ويرتكز العزف على القمبري بالضرب على الوتر الأعلى (الذكر) بالإبهام، ويأتي الردّ مباشرة بعرك النغمة المنخفضة على وتري "الماية" و"الأنثى"، ويسمّى "الجواب".

 

القمبري، الديوان، السطمبالي

 

على خلاف الآلات الموسيقية الوترية، تُضبط آلة القمبري على صوت صاحبها، إذ يجب أن تتقارب نغمة صوت العازف مع عزفه. هنا، يقول المعلّم مجبر، صاحب أشهر الفرق الموسيقية في مدينة بشار (الجنوب الغربي الجزائر) إن "آلة القمبري لا يجب أن يعلو صوتها على صوت عازفها، فهو أدرى بنبرته الصوتية وعليه أن يضبطه وفقها".

يعود مجبر، إلى تاريخ موسيقى الديوان في الجزائر، ويعتبر أنها موسيقى إفريقية انتقلت عبر قوافل التجّار. ويعود إلى اختلاف التسمية بين الدول المغاربية، تونس والجزائر والمغرب، معتبرًا أنه ما يطلق عليه موسيقى الديوان في الجزائر، هو نفسه ما يسمّى في المغرب بموسيقا القناوي (تاقناويت)، ولذلك يتحفّظ عما تنشره بعض وسائل الإعلام التي تطلق على موسيقى الديوان الجزائرية تسمية القناوي في كثير من الأحيان.

 

الأبراج والطرح

 

يوّضح المعلّم في حديث إلى "العربي الجديد"، أن الاختلاف الموجود بين المغرب والجزائر هو في الطقوس المصحوبة لعزف آلة القمبري، وحتى طريقة العزف أيضًا، ويُطلق على أغاني الديوان تسمية "الأبراج" بحسب مجبر، وهي قصائد متداولة شفهيًا بين الفرق الموسيقية. ففي موسيقى الديوان، لا تسمّى المقطوعات الموسيقية بـ الأغاني. أمّا في المغرب، فيطلق عليها تسمية "الطرح"، وتعتبر كلمات هذه "الأغاني" مزيجًا من اللغات الإفريقية، منها البامبرا والهاوسا المتداولة في شمال مالي، وتحمل كلماتها دلالات طقوسية وحركات كوريغرافية لا يكتمل العزف إلا بها، تشمل صيد الحيوانات وأكل لحومها وإحداث جروح في الجسد وارتداء ألوان معيّنة، ففي السابق كانت هذه الطقوس تمارس فعليًا، أما اليوم فأصبحت تُمسرح فقط عن طريق تجسيد الشخصيات التي وردت في كلمات "الأبراج"، يقول المتحدّث.

 

أولاد بامبرا

 

يستحضر المعلم مجبر، ولقب "المعلم" يطلق على شيوخ موسيقا الديوان، صناعة آلة القمبري، ويعتبر أنها شهدت تطوّرات كثيرة، مؤكّدًا أن آلة القمبري في السابق كانت آلة ضخمة، ولا تتماشى مع عزفها وقوفًا على الخشبة، وإنما تستجيب لوضعية الجلوس على الأرض؛ إذ كان يعتبر المكان الذي تقام فيه ليلة القمبري مقدّسًا ولا يجوز الدخول إليه بالأحذية.

من جهته، يفصّل رشيد عيقون، أحد أعضاء فرقة "أولاد بامبرا" في حديث إلى "العربي الجديد"، في الميزان الموسيقي لأغنية (القناوي- الديوان)، ويقسّم مقاماتها إلى ثلاثة، وهي "المربّع" و"المرساوي" والـ "6 -8" أو كما يطلق عليه بالفرنسية "سيس ويت"، مؤكّدًا أن القمبري آلة روحية ولا تجد آلة تشبه الأخرى مهما تطابقت قياسات صناعته على حدّ تعبيره.

ويُرجع رشيد أوجه الاختلاف في طابع القناوي بين الجزائر والمغرب إلى طريقة العزف؛ إذ يعتبر أن لكل منطقة طريقة عزفها الخاصّة الذي تميّزها عن غيرها، ويشرح طريقة العزف في الجزائر إذ يعتبر أن القرع عليها بعد عرك الأوتار يكون بالأصابع مجتمعة في الأسفل، أما في المغرب فيُستخدم أصبع الإبهام للقرع على الآلة في الأعلى.

يقول رشيد إن تسمية الفرقة "أولاد بامبرا"، يعود إلى أحد البيوت التي كانت معروفة بطابع أغنية القناوي في الجزائر العاصمة، وبالضبط في حيّ القصبة العتيق، وأن فكرة المحافظة على هذه الأغاني هو ما جعله وأصدقاءه يتحرّكون لتأسيس هذه الفرقة، وهي تنشط منذ سنة 2010، واستطاعت أن تنال الجائزة الثانية في المهرجان الوطني لموسيقى الديوان، الذي يقام كل عام في الجزائر، ومشاركة المنصّة مع أعمدة الأغنية الأفريقية، من بينهم الشيخ إلياسار، والفنانة الإفريقية المعروفة ماماني كيتا.

 

تحوّلات الآلة

 

آلة القمبري اليوم، كما تحدّث المعلّم مجبر، لم تعد تُصنع بالطريقة التي كانت تُصنع بها في السابق، فقط أصبح حجمها أصغر ممّا كانت عليه استجابة للعزف على المسرح، رغم أن كثيرًا من الروّاد في هذه الأغنية يرفضون أن تكون موسيقى الديوان موجّهة للفرجة باعتبار أنّها موسيقا طقوسية ولها شيء من القداسة. يعترف مجبر أن الآلة تعرّضت للكثير من التغييرات، منها أن الأوتار أصبحت تُصنع من خيوط الصيد، وقدّمت هذه الفكرة لحنًا موسيقيًا رنّانًا ونتائج إيجابية موسيقيًا، أما مقبض الآلة فأصبح الفنانون يعمدون إلى إضافة "الطومبور" إليه، أو ميكانيزمات ضبط الإيقاع على حدّ قوله، وهي طريقة سهّلت كثيرًا من التحكم بعزف آلة القمبري بشكل جيّد.

يضيف المتحدّث، إلى كل هذا، بعض التفاصيل الصغيرة التي عرفت تغييرًا هي الأخرى في آلة القمبري، منها الخشبة التي تحمل أوتاره الثلاثة. هنا يوضّح مجبر أن هذه القطعة مسؤولة عن الصوت القوّي والمدّوي لآلة القمبري، وكانت في السابق تصنع بحجم كبير، وتسمّى عن أهل الديوان بـ "الكرسي" أو "الحمّار" أو "الشوفالي"، أما اليوم بحسب مجبر، فقد تمّ الاستغناء عنها تقريبًا وأصبحت صغيرة جدًا وبالكاد تظهر على آلة القمبري.

الطريقة الكلاسيكية للعزف على آلة القمبري، كانت مرفوقة في السابق بوسائل تقليدية، أهمّها الطبل أو "البانغا" وآلة "القرقابو"، هذه الأخيرة تشبه الأصداف المعدنية وتُمسك بواسطة الأصابع، وتكون مرافقة لنغمات الطبل بالإضافة إلى جوقة التصفيق التي تتوافق أيضًا مع  ضربات الطبل وتكون بشكل سريع ومسترسل ولها مسافات زمانية ثابته تعلو وتنزل حسب "الريتم" الذي تفرضه الأغنية، حيث يبدأ بطيئًا وينتهي بإيقاع سريع، أما في حفلات الديوان اليوم، فقد تم إدراج عدّة آلات موسيقية حديثة منها البيانو والغيتار الإلكتروني والناي، وهو ما يصفه البعض بأن روح موسيقى الديوان بدأت بالتلاشي.

تقنيًا، هناك عدّة عناصر موسيقية أساسية تؤثث "الليلة الكناوية". فإلى جانب القمبري، تدخل أيضًا القراقب، وهو صنوج حديدية توضع في الأصابع وتُدقّ ببعضها بعضًا. يضاف إليها، أيضًا، الطبول التي تُقرع بواسطة القضبان. يصعب الفصل بين الجانب الموسيقي والطقوسي عند الحديث عن الديوان؛ فهناك مزيج مدروس بين الحركة واللفظ والصوت والرقص. يرافق هذا كله تنويعات نغمية خماسية المقام، يسندها الإيقاع بين التقسيمات الثنائية والثلاثية.

تبدأ "الليلة الكناوية" بمقدمة طويلة تُسمّى "العادة"، أو "الدخلة"، وهي مسيرة موسيقية تجوب شوارع المدينة، قبل أن تلج المنزل الذي ستقام فيه الليلة، وتتميز بطابعها الإيقاعي. ثم هناك الفترة الثانية المسماة "ولاد بامبارا"، وهي سلسلة أغان خفيفة يطبعها اللهو ويتخللها استذكار الأسلاف وحصص راقصة فردية وجماعية. ثم تليها فترة "الملوك"، وهي الافتتاح الجدي لفضاء "الليلة"، ما يعني أن "الليلة الكناوية" دخلت في مرحلة الطقوسية والموسيقى العلاجية. تتطلب هذه المرحلة توفير معدات ومستلزمات مثل المناديل الملونة والأبخرة، وخصوصًا "الجاوي"، وهو أهم الأبخرة في الليلة الكناوية، له ثلاثة ألوان، الأبيض والأسود والأحمر.

 

الدين والموسيقى

 

لطالما ارتبطت موسيقى الديوان بالروحانيات إلى غاية اليوم رغم التغييرات الكثيرة التي طرأت عليها، إذ تخلّصت هذه الموسيقى من الكثير من الأبراج أو الطقوس التي كانت تقام لأجلها بسبب تنافيها مع الدين الإسلامي، خاصة طقوس شرب الدم، وأكل اللحم النيء وتقديس ملوك الهاوسا والبامبرا وملكاتهم، وإحداث جروح على الجسد، وامتزجت هذه الموسيقى في دول المغرب بالطقوس الصوفية، ونتيجة لهذا التمازج، ظهرت هناك أبراج، تشيد بمدح الصحابة والأنبياء والرسل والأولياء.

رغم أن الغموض ما زال يلفّ كثيرًا الطقوس التي ترافق عزف موسيقى القناوي، إلا أن الخلاف ما زال قائمًا حول كونها تستخدم للاتصال بالعالم الآخر واستحضار الجن، أو أنّها مجرّد موسيقى روحية يتمّ الانتقال عبرها إلى عوالم ميتافيزيقية مسكونة بالتأمّل والتحرّر من قيود الجسد. وبين هذا وذاك، ما زالت الأسئلة تطرح حول إن كان يجب التمسّك بهذه الروحانيات، أو الإبقاء على طابع الديوان من جانبه الفلكلوري فقط من دون الاستسلام للعفوية.

 

من نفس القسم الثقافي