الثقافي
"العلمانية وصناعة الدين": سياقات ما بعد استعمارية
على الرفّ
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 12 أفريل 2018
كثيراً ما أخذت العلمانية في تطبيقاتها مُنعطفاً جعلها في صراع دائم مع الدين. خلال القرن العشرين، وفي السعي المُتواصل نحو التقدم والحداثة ستُصبح العلمانية إيديولوجية للهيمنة، لا سيما مع اعتبارها سيرورة كونية ستُزيح في نهاية المطاف الدين عن تسيير الشأن العام.
لقد أدت هذه الثُنائية المُختلقة علمانية/ دين إلى مزيد من انفصال المفهومين مع تعاقب الأجيال، بل وجعلهما منظومتين طبيعيتين، تتشكلان بحتمية تتّجه بالتاريخ نحو هذه القطيعة، لتصير معه العلمانية مُرتبطة بعدد من القيم، من قبيل التسامح والعدالة والعقلانية والمصلحة وغيرها؛ في الوقت نفسه الذي نُظر للدين باعتباره نقيض النظرية العلمانية وخصمها الدائم.
كتاب "العلمانية وصناعة الدين" الصادر حديثاً عن "الشبكة العربية" بترجمة حسن احجيج، لا ينطلق من هذه المُسلَّمة. إذ يسعى درسلر ومانداير مُحرّرا هذا العمل إلى تفكيك هذه الثنائية وإعادة فهم العلاقة بينها، من خلال الاعتماد على إطار نظري جديد، يجعل من الدين عمليَّة مُوجَّهة ومُسيَّسة "بوصفها الطريقة التي يتم بها تشكيل بعض الظواهر الاجتماعية وإعادة تشكيلها في خطاب الدين أو الأديان العالمية، بعبارة أخرى، يحيل المفهوم إلى تجسيد بعض الأفكار والتشكيلات الاجتماعية والممارسات ومأسستها على أنها دينية بالمعنى الاصطلاحي الغربي للكلمة، ويتم ذلك بإلحاقها بنظام معرفي خاص وبتدابيره السياسية والثقافية والفلسفية والتاريخية"، ويبدو إذاً الهدف من هذا الكتاب -الذي يتكون من اثنتي عشرة مساهمة لدارسين متخصّصين في علم الاجتماع الديني والدراسات الثقافية-، مُحاولة لفهم مُختلف التضمينات السياسية والمعرفية لتشكُّل الخطاب العلماني والديني، ودراسته في سياقات اجتماعية وتاريخية مختلفة تنتمي إلى المرحلة الاستعمارية وما بعد الاستعمارية، وذلك من خلال تأطيره بمفهوم "صناعة الدين"، الذي يسمح بتفكيك الحدود المُتوهمة وإثبات التداخل بين الخطابين -العلماني والديني؛ مع التركيز في مُختلف الفصول على عواقب تبنّي النُخب غير الغربية للنموذج الغربي عن الدين والعلمانية.
يسمح هذا الكتاب بالتنبيه إلى مدى خطورة جعل مفهوم الدين ذا طابع كوني. فمن جهة، يُعدّ الدين نفسه مفهوماً إشكالياً يختلف من سياق لآخر، ومُحاولة تعميم مفهوم واحد ينهل من التصورات الغربية، هو إقصاء لمفاهيم أخرى عن الدين، منها من لم يعرف نفس مسارات التجربة الغربية؛ ومن جهة أخرى، فإنَّ عدم الوعي بآلية صناعة الدين يُغذّي الحضور المُستمر لفكرة الثنوية التي تأخذ أبعاداً سياسية خطيرة في تأجيج العنف والحرب، إذ يتم تصوير الدين كمُقابل للعلمانية، وفي صراع دائم معها، يستطيع القارئ أن يقف مع كل فصول الكتاب على وجه من أوجه نقد النظرية العلمانية المُستوحاة من عصر التنوير، حيث تطرح كل دراسة أسئلة على الأفكار المُسبقة بشأن الحدود بين الدين والعلمانية؛ معتمدة في ذلك على النظريات الاجتماعية ما بعد الاستعمارية وما بعد البنيوية، خاصة تلك التي تبلورتْ مع ميشيل فوكو وإدوارد سعيد وطلال أسد.