الثقافي

"جمهورية كأنّ": استعادة لأحداث وكوابيس ثورة مغدورة

على الرفّ

يُغرينا الناشر اللبناني الذي لَجأ إليه علاء الأسواني (1957)، بعد أن ترددت دورُ نشر مصرية في نشر روايته الأخيرة "جمهورية كأنّ"؛ فيقول على غلافها الخلفي: "قد يكون لها الوقع الكابوسيّ نفسه الذي أحدثته رواية أورويل "1984"". ولا نظنّ أن هذه المبالغة التجارية تخدم العمل وصاحبه، ولا يقدّم الأسواني "ديستوبيا" مثلما رأينا في رواية "1984"؛ بل يقدّم رواية واقعية، تستعيدُ "ثورةَ 25 يناير"، عبر أحداث وشخصيات وكيانات وأماكن وشهادات حقيقية، إضافة إلى شخصيات اعتبارية أخرى قام بتخليقها من عدّة شخصيات لها وجود حقيقي في مصر، بل يمكن العثور بسهولة على تلك الشخصيات المُخَلَّقة من خلال العلامات التي وضعها لها المؤلف، مثل اللواء أحمد علواني؛ رئيس أكبر جهاز أمني، والشيخ شامل، السلفي المزواج، الذي تلقى تعليمه الديني على يد أحد شيوخ السعودية، بالرغم من أنه خرّيج قسم اللغة الإسبانية في "كلية الألسن"، ونورهان؛ الإعلامية الوصولية التي افتعلت اللقاءات المزيفة لتشويه الثورة، والحاج شنواني رجل الأعمال الموالي للسلطة، الذي قام بفتح قنوات فضائية لخدمة الدولة العميقة، وغيرهم.

ربما سيبالغ من يحبّون الأسواني في حَشْرِ اسمه، مع أورويل وهوغو وماركيز وغيرهم، واعتباره نموذجاً للروائي المناضل الذي سخّر قلمه ضد الاستبداد. ولن يوجد أمامهم مَن يعترض؛ فلا ضابط نقدياً يُستند إليه إلا رفع العقيرة، وفي المثل العامي "خُدُوهم بالصوت" و"الكلام مش بفلوس"، أما من يكرهونه فربما ينظرون للعلاقة بين روايتي أورويل والأسواني -التي زعمها الناشر- من خلال عبارة ونستون سميث بطل رواية "1984" حين قال: "لا بأس فقد انتهى النضال، وها قد انتصرت على نفسي وصرت أحبّ الأخ".

فالأسواني أيضاً -من وجهة نظرهم- كان يحبّ "الأخ الأكبر" ويعشقه، بسبب سحقه لخصومه السياسيين والتمثيل بهم، وكان لهذا العشق أن يستمرّ لولا أن رجال الأخ الأكبر ضيّقوا عليه قليلاً، ونغَّصوا عليه شهرته. وكان العشق قد بلغ به، في وقتٍ ما، مبلغاً عظيماً لدرجة أنه وصف الأخ الأكبر بـ"أعظم قائد في التاريخ بعد إيزينهاور"، وهي أيضاً مبالغة تجارية لم تشفع لصاحبها، ولن يسقطها من الذاكرة ما صار الآن يكتبه بكل صراحة عن قمع الأخ الأكبر واستبداده.

وقد مرّ فيها على أبرز الأحداث التي عرفتها الثورة وشبابها، بداية من الدعوة للتظاهر بسبب اغتيال خالد سعيد في يوم عيد الشرطة، وتفاقم الأوضاع في جمعة الغضب، ومعركة الجمل، وتنحّي مبارك، ثم مذبحة ماسبيرو، وأحداث شارع محمد محمود، وقضية كشوف العذرية، وحملة "عسكر كاذبون"، والمحاكمات الهزلية لقتلة الثوّار التي عرفت باسم "مهرجان البراءة للجميع"، هكذا فإن الرواية جديرة بالقراءة لموضوعها المثير وأدائها الفني الموفّق إلى حدٍ كبير، وهنا لا يمكن هضم حقّ المؤلف، فالأسواني يمتلك أدواته الروائية؛ يوظّفها بحكمة كبيرة تحسب له، والخلاف حول الرواية لن يكون حول جدارتها الفنية.

في "جمهورية كأن"؛ من حقّ القارئ العادي أن يشتبك مع المؤلف، فلن يكون مجرّد متلقٍ سلبي؛ إذ إن طبقة القُراء شاركت بنفسها في الأحداث التي تحكيها لهم الرواية، ولكل شخص في مصر قصّة ثورية خاصّة تصبّ في ميدان التحرير -أو حتى في ميدان مصطفى محمود-، والثورة التي يتحدّث عنها الأسواني ليست خيالية، ولم تحدث في جُزر "الواق واق"، ولم تكن منذ زمن سحيق؛ حتى يُملي المؤلف على القارئ أحداثها، وحتى يخلع الثورية والمثالية والشرف على هذا وينزعها عن ذاك. كما أن عملية إجهاض الثورة والانقضاض على مكتسباتها والتمثيل بشبابها لا يزال قائماً على أشدّه.

 

من نفس القسم الثقافي