الثقافي

"السياسة والبيئة والفن": من السجون إلى فيسبوك

على الرفّ

مواضيع ثلاثة قد يبدو للقارئ السريع أن ما يفرّقها أكثر بكثير مما يجمعها؛ السياسة والشرعية والرقابة، البيئة والمعضلات الإيكولوجية، ثم الفن والجماليات الحديثة. غير أنه، وبعد التركيز في صلبها، يتبيّن أن خيطاً ناظماً يجمع بينها، إنها ثلاثة سكك تسير عليها مباحث الأكاديميا المعاصرة، إذ تفكّر في المشاكل التي تحيط بالنظام العالمي اليوم، وفي صلبه العالم العربي، وهو الأمر الذي يحاول الباحث الجزائري جمال مفرج مقاربته في كتابه "السياسة والبيئة والفن: العلاقة والإشكاليات" (منتدى المعارف، 2017).

يتطرّق القسم الأول للكتاب إلى السلطة السياسية، منطلقاً فيها من قضية الشرعية السياسية في فكر روسو إلى أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، متناولاً قضية العدالة ومعها قضية الاعتراف وما آلتا إليه عبر العصور، ثم قضية مراقبة الأشخاص والتحكّم فيهم من السجون إلى فيسبوك، بدايةً، يستشهد مفرج بقول أحد المفكرين السياسيين، الذي كتب في عام 1948 يصف حال الشرعية في القرن العشرين بالقول: "لقد ماتت الشرعية، لأن البشر أصبحوا يشرّعون اليوم القوانين لتبرير القوة. وهي لن تنبعث ثانية إلا بعد أن يتم العثور على مصدر شرعي للحق".

يؤكد مفرج أن هذه العبارات تعبّر أحسن تعبير عن حالة الشرعية اليوم؛ فبين إعلان موتها، والحاجة الملحّة للعودة إلى مصادرها تظلّ الشرعية السياسية المشكلة الأساسية لكل سلطة. لقد أُعلن عن موت الشرعية في منتصف القرن العشرين، بعدما اتّفقت جميع الأنظمة الشمولية؛ شيوعية وفاشية ونازية، على أن الإرادة هي السلطة الأقصى والأقوى التي لا تحدّها حدود ولا تأتمر بأوامر أحد، وبفعل ذلك أصبحت الإبادة الجماعية هي منطق كل سلطة سياسية ترتكز على إرادة بلا حدود، إن الشرعية السياسية هي، إذن، عبارة عن علاقة بين مؤسسات لها سلطات غير متكافئة؛ فصاحب السيادة هو عبارة عن إرادة تشريعية، والحكومة عبارة عن قوة تنفيذية، أي أننا أمام سلطة ليست سوى إرادة، وسلطة أخرى ليست سوى قوة، والثانية منهما تابعة للأولى. ومصير الشرعية يتوقّف في نظر روسو على مدى احترام هذه التبعية والحفاظ عليها لأطول فترة ممكنة، فأي تعديل في هذه التبعية أو في حدود السلطتين المذكورتين يؤدي إلى تقويض العقد أو الاتفاق، وبالتالي الشرعية، يكتب روسو: "الاتفاقات هي الأساس لكل سلطة شرعية بين البشر".

يرى مفرج أن الحكومة التي تخرق مبدأ التبعيّة والتعسّف في استعمال السلطة، هي التي تعرّض الشرعية للخطر، وبالتالي فإننا نستنتج أن اللاشرعية تولد من رحم الشرعية، وذلك عندما تتجاوز السلطة التنفيذية حدود شرعيتها الخاصّة. في المقابل، لا يتسبّب التعسف الذي تقوم به الحكومة في حدوث أزمة عابرة، بل في شرّ دائم تكون نتيجته تدمير الحقوق، وعلى رأسها حق المساواة، لقد توصّل روسو إلى تحديد ثلاث وسائل أو إمكانيات دستورية لاستمرارية التبعية أو الشرعية. أولاها خلق سلطة أو هيئة قضائية خاصة لا تشكّل جزءاً من الهيئات الأخرى، وهذه الهيئة يدعوها روسو منصب الدفاع عن الشعب. أما الثانية فهي الرقابة أو الحقّ في التمثيل، وهو حقّ يؤكد روسو أنه ليس صورياً، بل يجب أن يكون له تأثير فعلي، ولكي يكون له ذلك يجب على المواطنين ألّا يفقدوا الحقّ في التحرّك، أي الحق في التدخّل عند حدوث انتهاكات للقانون أو تعسّفات في استعمال السلطة. في حين تكمن الوسيلة الثالثة في منع كلّ تمركز للسلطة التنفيذية أو ديمومتها، لأنه عن طريق تداول السلطة يكون وجود الأعضاء في جميع الهيئات عابراً، ويصبح بالتالي على جميع المواطنين أن يكونوا مستعدين لتولي الوظائف العامة.

 

من نفس القسم الثقافي