الثقافي

لوي-جون كالفيه.. الغالب والمغلوب في سوق اللغات

على الرفّ

"ليست اللغة سوى عُملة نقدية تُتداول في أسواق الألسن لتحقيق الفائدة"، هذه هي الاستعارة الحيّة التي شيّد على ضوئها عالم اللغة الفرنسي لوي-جون كالفيه (1942) نظريته حول وضعيّة اللغات في عصرنا هذا، بعد أن بات العالم قريةً يهيمن عليها اللسان الإنكليزي، وتعيش على وقع عولمةٍ لغوية ضارية.

ففي كتابه الأخير، الصادر بعنوان: "اللغات: أيُّ مصير؟ الآثار اللسانية للعولمة" (دار سنرس للنشر، 2017) يخصّص الألسني الفرنسي فصولاً، مشوِّقة وموثقة، لعرضٍ موضوعي عن أوضاع الألسن البشرية في أنحاء المعمورة، بعد أن خضعت لمسار عَولمة مُطبِق، فرض اللغة الإنكليزية معيارًا للنجاح والتواصل، مثلما فُرض التعامل بالدولار عملةً أساسية، الأمرَ الذي أدّى إلى انقراض العديد من اللغات، حتى التي صمدت إلى زمن غير بعيد، ناهيك عن اللهجات المحلية النادرة، وصارت اليوم تتحلّل وتَتراجع أمام سيطرة الإنكليزية ونفوذها، باعتبارها وسيلة التواصل الأجدى في كل البلدان.ينقسم هذا الكتاب إلى تسعة أقسام يعالج من خلالها المؤلف مظاهر التشابك بين الحدث اللغوي والقرارات السياسية، فركّز بدءًا على أنماط تدخّل الدولة في اختيار اللغة التي ترتضيها لشعبها، أو تَفرضها عليه. ودعم دراسته هذه بعدة أبحاثٍ ميدانية استقصى من خلالها أشكال التداخل بين اللغة والسياسة في كلٍّ من تركيا وأوروبا والأرجنتين وكورسيكا.

وعاد بعدها إلى كتابات الألسنيين التي اعتمدها الساسة المعاصرون من أجل صياغة إجراءاتهم حول اللغة. كما تناول مجموعة السمات والخصائص التي باتت تميّز واقع اللغات اليوم مثل: عدم تساويها في التمثيل الرسمي في المحافل العالمية، وميل عدد منها إلى الاندثار، ولا سيما الألسن النادرة، ومثل انقسامها إلى "لغاتٍ كبرى" تُتكلّم في "نادي الكبار"، وأخرى "صغرى" أو "نادرة" تعود إلى الدول والجماعات المهمشة سياسيًا واقتصاديًا. وكان يدلّل على هذه التوصيفات عبر دراسات حالات ميدانية تشمل مثلًا استخدام اللغات في منظمة الأمم المتحدة، مستخلصًا منها مجموعة من الإحصاءات والجداول، مما أضفى على عمله طابع الموضوعية.

واختتم كتابَه بالتساؤل عن المصير اللغوي للعالَم، بعد أن استعاد عوامل التأثير في انتشار اللغات أو اندثارها، مقترحًا، في خلاصته، سلسلة من الحلول التي قد تساعد على التصدي لهيمنة الإنكليزية وتسونامي العولمة اللغوية الذي من شأنه أن يمحو الهويات الألسنية ويقضي على خصائص الثقافات المباطنة لها.

بنى الألسني الفرنسي هذه التحليلات على استعارة "سوق اللغات" مشبهًا إياها بعملة مالية، تتفاوت قيمتها حسب قوانين العرض والطلب، مؤكدًا أنَّ تداول اللغات، بما فيها من عباراتٍ ومجازات، شبيه بتداول البضائع والعملات في سوق مفتوحة على التنافس، النزيه وغير النزيه، وبرهن الكاتب، طيلة هذه الفصول، أن اللغات ليست بمنأى عن تأثير العولمة، بما هي حركة كونية تفرض قوانينها بحسب مبدأ القوة والنفوذ، فتمحو اللغات المتغلبة الحدود وتسعى إلى تعويض/ تقويض اللغات الخاصة بكل مجتمعٍ، وعددها اليوم يقارب السبعة آلافِ لسانٍ، ويشكّل كل واحد منها إحدى مظاهر الهويّة. ففي سوق اللغات، يبحث المستخدمون/ المستهلكون عن الربح والجدوى، أي عن الأدوات اللسانية التي توفّر الربح الأكبر ضمن تطلّعات الأفراد والدول، على المستويات الاقتصادية والدبلوماسية، بقطع النظر عن طبيعة اللغة الأصلية وعبقريتها الخاصة.

من نفس القسم الثقافي