الثقافي

"التطويق": الجغرافيا المتخيّلة وأوهام الأرض الخالية

على الرفّ

احتاج غاري فيلدز Gary Fields، الأكاديمي في "جامعة كاليفورنيا - سان دييغو"، إلى قرابة عشر سنوات من البحث والعمل على كتابه الصادر مؤخراً عن "منشورات جامعة كاليفورنيا" تحت عنوان: "التطويق: الأرض الفلسطينية في مرآة تاريخية". لا يتناول الكتاب التشابه والربط بين الاستعمار الاستيطاني الصهيوني لفلسطين من جهة، والإنكليزي - الأميركي لأرض السكان الأصليين في أميركا الشمالية من جهة أخرى فقط، بل يربط بينها من زاوية جديدة، تُعرف بـ"التطويق الإنكليزي".يشير فيلدز في مقدّمة كتابه إلى أن رحلته مع الكتاب جاءت بعد زيارة له إلى فلسطين، وكان آنذاك يفكّر في كتابة دراسة مقارنة بين جدار الفصل العنصري الذي بنته سلطات الاحتلال، وبين الجدار الحدودي بين إسبانيا والمغرب، وكذلك الجدار بين منطقة تيوانا في المكسيك وسان دييغو في كاليفورنيا، حيث يعيش ويعمل.ويضيف بأن المقارنات "كانت تهدف إلى إظهار الكيفية التي يترجم بها الخوف والقوة بشكل مادي وفعلي عن طريق الجدران، كجزء من ممارسات كونيّة من أجل السيطرة على مجموعة معيّنة من الناس. ولكن عندما بدأ في العمل على المشروع على الأرض والقيام بالبحث الميداني، بما في ذلك الحديث مع الفلّاحين الفلسطينيين ورؤساء البلديات الفلسطينية وغيرهم، عن تأثير جدار الفصل على حياتهم، تغيّرت طريقة تفكيره في مشروعه.

ويشير في هذا السياق: "على الرغم من أن الجدار يبقى رمزاً للقوّة والخوف والسيطرة، فإن تلك الأصوات كانت تكشف رواية أكثر أهميّة عن الأرض وانتزاع الملكيّة ونقل الأرض من يد مجموعة إلى مجموعة أخرى. في هذا السياق يمكن رؤية جدار فلسطين والمتأثرين به بحيث يصبح جزءاً من السردية التاريخية عن الحق في الأرض - ونهم الاستيلاء عليها".

يتطرّق فيلدز في المقدمة أيضاً، إلى وجود أدبيات بحثيّة متطوّرة متعلّقة بالأراضي الفلسطينية، ومحاولات الاستيلاء عليها من قبل نظام الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في البداية، وثم "الإسرائيلي" بعد النكبة. ويشير إلى تنوّع الأنظمة الاستعمارية حول العالم لكن واحداً منها يبدو قريباً في تفاصيله مما يحدث في فلسطين؛ هو ما حدث في أميركا الشمالية من قبل الاستعمار الإنكليزي/ الأميركي في الماضي وحتى يومنا هذا ضد السكان الأصليين. ويلفت الانتباه إلى أن قادة الصهاينة أنفسهم قاموا بتلك المقارنات.

يذكر فيلدز على سبيل المثال مقالاً لـ زئيف جابوتنسكي نشر عام 1923 تحت عنوان: "الجدار الحديدي"، ويتحدّث فيه بصراحة عن التشابه بين الخطط الصهيونية وبين تلك التي اتّبعها الاستعمار الإنكليزي للاستيلاء على أراضي السكان الأصليين في أميركا الشمالية. ويحذّر جابوتنسكي من أن الفلسطينيين سيحذون حذو نظرائهم من السكان الأصليين (الهنود الحمر) في الكفاح ضد استعمار بلادهم.

ينوّه فيلدز إلى أهمية طروحات إدوارد سعيد في كتابه "الثقافة والإمبريالية" (1993)، والذي أشار فيه إلى حقيقة أن الاستعمار، أساساً، ظاهرة ماديّة يتم فيها الاستيلاء على الأرض، لكنّه شدّد كذلك على أنها تنبع من منظار المستعمرين ورؤيتهم للعالم وخطابهم الذي يعيد تخيل الأرض على أنها إرث للمستعمِر. ويشير فيلدز إلى أهمية عملية إعادة اختراع معانٍ جديدة حول الأرض، سمّاها سعيد "الجغرافيا المتخيّلة" وأصبحت مقولة أساسيّة ومهمّة في عدد من الحقول المعرفية وفي أطرها النظرية التحليلية. و"الجغرافيا المتخيلة" إحدى المداخل الأساسية لمشروع فيلدز وكتابه.

 

 

من نفس القسم الثقافي