الثقافي

عبد الرزاق السنهوري.. أماني رجل القانون المصري

على الرفّ

قلّما اجتمعت الكفاءتان، القانونية واللغوية، مثلما اجتمعتا لدى رجل القانون المصري، عبد الرزّاق السَّنهوري (1895-1971)، الذي أنجز أدق عملية صياغة للدساتير والقوانين العربية، دون القطع مع التّراث الفقهي للأمة الإسلامية، ناقلاً هذه القيم من المجال الديني إلى مجال الحق الوضعي، ولندرك أهمية هذه الخطوة، يحسن التّذكير أن كتب الفقه التّقليدية ظلّت، منذ نشأتها، في القرن الثامن حتى نهاية القرن التّاسع عشر، خاضعة لبنية ثلاثية: العبادات، والمعاملات، والعقوبات.

كسر السّنهوري هذه البنية مستلهماً تنظيمات السلطنة العثمانية، وما تلاها من إصدار "المجلة"، أول نصٍّ قانوني تركي-عربي، إلى جانب مدوّنات القانون الفرنسية والإنكليزية، من أجل صياغة قواعد وضعيّة حديثة، لا تعارض كليات الشريعة ومقاصدها، وتساعد في إرساء حُكمٍ جمهوري. وهو بذلك، يعدُّ محرّر أول قانونٍ مدني لمعظم الدول العربية التي تتخذ من "مجلة الأحكام العدلية"، ذات المرجعية الحنفية، أساسًا لها.

وقد طوَّع السنهوري، لإنجاز مشروعه هذا، لغة الضاد فعبَّر من خلالها عن البعد الوضعي للقواعد، بإدماج مفردات جديدة، وإفراغ المصطلحات الفقهية التقليدية من الشحن الثيولوجية والقَبَلية، ثم بإضافة فروعٍ مستحدثة، تشمل أنظمة السياسة المدنية، وقواعد الحَوْكمة، في بلدانٍ خرجت للتو من نِير الاستعمار، مع مراعاة خصائص تلك اللحظات التاريخية الحرجة، التي كانت الأمة العربية فيها تبحث عن ذاتيتها: بين حُلم القومية العربية والجامعة الإسلامية، في ظل رغبة الجيش في تعطيل القواعد المدنية، وفرض نظام عسكري.

وفيها أخيراً من الأدعية الصادقة والتأملات الغيبية، وحتى الصوفية، إشاراتٍ ولمعًا تنبئ عن إيمانٍ قوي وعاطفةٍ مشبوبة. ورغم تنوّع الأغراض واتساع دائرتها، يمكن تلخيصها في ثلاثة محاور كبرى: الفكر الإسلامي، العمل الوطني، والتأملات الفلسفية والأدبية في اللغة والمجتمع والقانون.

ولأخذ فكرة واضحة عن طبيعة التأمل السياسي الممزوج بالالتزام الديني، نورد رأيه الذي يؤكد فيه أنَّ "الديمقراطية الإسلامية تُلزم على أفرادها لا إطاعَةَ القانون فحسب، بل العملَ على حمل الغير على إطاعَته، أي أنَّ موقفَ الفرد موقفٌ إيجابي، لا سلبي، كما هي الحال في الديمقراطية الغربية. وتكون حقوق الفرد إذن في الديمقراطية الإسلامية، وقدر اشتراكه في إدارة الشؤون العامة، أوفر من القدر المُعطى للفرد في الديمقراطية الغربية".

ومن الآفاق الجديدة التي يفتحها هذا الكتاب، ولم يعتن بها اللسانيون العرب بعد، آراء لغوية طريفة، ليس فقط حول الأدب (فقد صاغ بضعة أبياتٍ واستشهد ببعضها الآخر) ولكن حول تطوّر العربية الفصحى، وعلاقتها بالدارجة، وخصائص لغة القانون، وجهوده في الترجمة، ونقل المصطلح السياسي، ومسائل التوليد الاصطلاحي، وغيرها، لا سيما وأن الرجل عُيّن عضواً في "مجمع اللغة العربية"، تقديراً لجهوده في خدمة الضاد والحفاظ عليها.

الوكالات

 

من نفس القسم الثقافي