الثقافي

هامش من عرض فيلم ابن باديس

 

 

تتقاطع حكاية بن باديس وحياته التي نعرف أهم محطاتها، مع حياة عائلة الطاهر الذي يجند مرغما في الجيش الفرنسي، تاركًا وراءه شقيقته الجوهر التي سيسهم الشيخ في تعليمها ووالده الذي يتحمل عناء زوجة قعيدة، وهذه شخصيات وهمية أوجدت لأجل خلق لمسة درامية في العمل خاصة في النهاية بعودة الطاهر محملا بفكرة التحرر..

التصوير كان جيدا، من خلال استعمال تقنيات سينمائية حديثة، كما نقلنا إلى تلك المرحلة قبل قرن وما يزيد، أما المدينة القديمة في العاشور بالعاصمة فتخالها للوهلة الأولى دروب السويقة ورحبة الصوف، اختيار أماكن التصوير كان موفقا، الألوان والإنارة وكذلك الألبسة والماكياج الذي أشرف عليه فريق من إيران، الصوت لم تكن فيه مشكلة، والموسيقى التصويرية التي ألفها في بلغاريا وأشرف عليها سليم دادة كانت إضافة نوعية رغم أنني توقعت أن تكون أحسن.

الإخراج كان رائعًا، هناك لمسة ساحرة أضفاها تواجد السوري باسل الخطيب في العمل، وقد سألته في نهاية العرض عن سبب عدم تحكم البطل الفيلم يوسف ساحري في اللكنة القسنطينية بإحكام (يقول مرة لزوجته هزي السينية ديالك!) فقال لي أن هناك مكلفا بتدقيق اللهجة، وهو ما يجعله منزها عن هذا الخطأ، وقد تقاطع رأيي مع رأي المخرج القدير علي عيساوي في براعة الإخراج ومفاجأته وزاوية رؤيته وكذلك ما استطاع أن يستخرجه من الممثلين.

البطل يوسف سحيري أدى دوره بنجاح، استطاع أن يقدم لنا شخصية بن باديس بلغة دارجة وعربية بكل حالاتها، فقدمه شكلا ومضمونا كأفضل ما يمكن، كذلك الجزائريين الذين مثلوا أدوارا فرنسيين أجادوا تقمصها، وبوطبيلة (الرجل الذي يجول في الأحياء بطبله ينبئ سكان المدينة بأخبارها) كان ملح العمل بامتياز..

على مستوى السيناريو وبعيدا عن التشكيك والتجريح الذي تعرض له صاحبه حتى قبل أن نرى العمل وهو أمر مرفوض زغير مبرر، فهناك جهد واضح، لغة السيناريو دارجة بسيطة ومفهومة، والحوار مقبول، لكن كان من الممكن ألا نتجاهل بعض المحطات مثل حادثة اعتداء اليهود سنة 1934 التي لعب فيها العلامة دورا بارزا، وعن ذلك دافع رابح ظريف بعد نهاية العرض في الندوة الصحفية عن نفسه وأكد أن هناك ما يقرب من 25 دقيقة من هذه الوقائع حذفت، وتقريبا ساعة ككل من محطات أخرى قلصت، حتى يظهر الفيلم من ساعة و50 دقيقة فقط ويستجيب لمقاييس محددة.

ولكنني أعيب هنا الدور الذي استأثرت به زوجة العلامة (صارة لعلامة)، وظهورها المتكرر، رغم أنها لم تكن شيئا مذكورا في حياته وانتهى أمرها مطلقة، وكان من الممكن التضحية بمشاهدها لأجل محطات هامة مثل زيارته الحجاز، ودوره كإمام مصلح ومفسر للقرآن ومحطات أخرى تم إغفالها لأسباب اعتقد أنها كانت لأجل ترويج الفيلم خارج الوطن العربي!..

الانتقال السريع للأحداث مفهوم بحكم أن الفيلم من 110 دقائق وكان من المفترض أن يمر على كل مراحل حياته، ولو كان الخيار بيدي لبدأت العمل من عودته من جامع الزيتونة او ربما بعد ذلك وربحت الكثير من الوقت..

هناك بعض الأحداث التاريخية التي هي دور المؤّرخين، أنقلها بحذر ولا اعتبرها أخطاءً بقدر ما يمكن البحث فيها:

*في الفيلم يرحل ابن العلامة بعد سقوطه من فرس كان يركبه، يرتطم بصخرة ويقضى، ولكن في آخر كتاب قرأته للدكتور عبد الله حمادي "سيرة ومسيرة" فقد مات اسماعيل بن باديس ببندقية صيد كان يلهو بها وهو ما صرح به شقيق العلامة عبد الحق من قبل وقرأته في مصادر متعددة.

* يتكلم ابن باديس باللغة الفرنسية في 5 مشاهد، المشهد الرابع كان طويلا، مع أنني قرأت في مصادر أنه كان يفهم الفرنسية ولكنه لا يتكلم بها، وهو ما يؤكده ابن خالته محمد الصالح بن جلول في كلمة تأبينية يوم وفاته نقلتها صحيفة (لونتونت) يوم 9 ماي 1940!

*كانت للعلامة مشكلات كبرى مع شيوخ الزوايا، في الفيلم ُيظهر السيناريو أن فرنسا من وقفت وراء هذه الخلافات من خلال خلق مشكلة بين الرجل ورجال الزوايا عبر رسائل مكتوبة كانت توجهها عن طريق شخص اسمه سليم، الذي سيدبر مؤامرة لاغتياله فيما بعد ثم يختفى فجأة، كان هناك موقف محايد بشأنه مشكلته مع شيوخ الزوايا الذين بايعوا فرنسا للتذكير، وهنا الأمر على ما يبدو لي حتى لا يغضب مول السطح!!

* سيناريو وفاته يقدم فرضية مرضه وكذلك وفاته مسموما باللبن، وكان من الممكن تجاوز الفرضية الثانية لأن عائلته ولا سيما عبد الحق بن باديس تؤكد أنه مات مرهقا، فقد كان يقدم 15 درسا يوميا ويسافر في عطلته إلى العاصمة، وأنا في مثل هذه الأعمال لا أحبذ مسك العصا من الوسط.

عموما: العمل رائع فنيا، البتر قلص من قيمة العمل على صعيد السيناريو طالما أن السينارسيت لم يغفل اي محطة بما في ذلك تأسيس فريق مولودية قسنطينة قبل أن يتم تقليص ثلثه، لغة النص والحوار جيّدة ومفهومة حتى بالنسبة للأشقاء العرب، وأتصور أن هناك اعتبارات سياسية وترويجية جعلت محطات تبرز وأخرى تختفي، فضلا عن بعض الحقائق التاريخية التي تستدعي التحقيق وعموما عمل إجمالا فوق المتوسط إلى مقبول، علامتي 6 على 10.

رأي: نجم الدين سيدي عثمان

 

من نفس القسم الثقافي