الثقافي

الحاج محمد المقراني،الشهيد الرمز

        بعد سقوط "قلعة بني حماد" أسس الأمير عبد الرحمان آخر الأمراء الحماديين "قلعة بني عباس" وشيد زاوية للتعليم وتدريس القرآن الكريم، كما انشأ جيشا قويا وأقام قصبة لحكمه، وبعد وفاته سنة 1500م خلفه ابنه احمد بن عبد الرحمان ومن أولاده الأمير عبد العزيز الذي في عهده أقام الأتراك حاميات و بنوا برجي برج بوعريريج  و زمورة مما دفع الأمير عبد العزيز وأخيه أحمد أمقران للتصدي لهذا الغزو التركي ووقعت عدة معارك قتل خلالها عبد العزيز وخلفه أخوه السلطان أحمد أمقران. 
       في سنة 1563 م تحرك السلطان أحمد بجيش لمساندة « حسن قورصو» و« حسن باشا » لتحرير وهران من الأسبان دامت هذه الحروب مدة أربع سنوات وعند عودته إلى شرق الجزائر دعم جيشه بفرسان من قبائل الحشم الهلالية (بنو هلال قبائل عدنانية عربية كانت تسكن الجزيرة العربية) وكانوا متواجدين بنواحي مستغانم. ومن أبنائه سيدي ناصر. 
      كان سيدي ناصر حافظا للقرآن الكريم عالما بأصول الدين محبذا مجالسة الفقهاء والعلماء غير مهتم بأمور السياسة والحرب مما دفع بني عباس إلى قتله سنة1600وترك ثلاثة أبناء أكبـــرهم أبو التقـــاء «سيدي بتـــقة» الذي أحاطه أخواله الحشـم بالرعاية والتعليم وعرف بالتصوف والزهد إلى أن أصبح شيخ مجانة .
     تعتبر "مجانة" عاصمة إمارة المقرانيين ،التي كانت تتمتع بالقوة و سعة النفوذ،حيث امتد حكمها الى  الهضاب العليا و تحكمت في الطريق الرابط بين الجزائر و قسنطينة،و فشل الأتراك  في استمالتها بكل الوسائل.
     دخلت الإمارة مرحلة الضعف لأسباب داخلية و خارجية،و استمرت على هذا الحال حتى حملة الاحتلال الفرنسية 1830م،و مع هذا الحال شارك المقرانيون مع باي قسنطينة الحاج احمد في مقاومته،و كان زعيم المقرانيين آنذاك الخليفة احمد المقراني.
      تولى الإمارة ابنه محمد، بعد وفاة والده سنة 1853م بفرنسا أثناء رجوعه من أداء مناسك الحج،لكن الولاية أصبحت  بلقب"الباشاغا" ،و هو اقل مكانة و صلاحيات.
       كان الباشاغا  الجديد "الحاج محمد بن احمد المقراني" يتميز بخصائص الحكم من فطنة و ذكاء و كياسة،و يملك مؤهلات مناسبة ليكون في هذا المنصب.
    كانت علاقتة  بسلطات الفرنسية تتميز بالمد و الجزر،خاصة لما زادت مضايقات سلطات الاحتلال،بإنقاص صلاحياته و امتيازاته ،بسبب شكوك فرنسا في عواطفه و تحركاته ،خاصة نحو الثورات في المناطق المجاورة.    
 انطلاق المقاومة محمد المقراني:  لأسباب كثيرة ـ محلية و إقليمية ـ  عزم الحاج محمد المقراني على الثورة،و إعلان الجهاد على الاحتلال الفرنسي.    
 تولى محمد بن أحمد المقراني قيادة مقاومة 1871 وعقد يوم 14مارس 1871م اجتماعا له لأعيان المنطقة والقادة العسكريين معلنا انطلاق المقاومة يوم الأربعاء 15مارس 1871.   
الشهيد الحاج محمد المقراني زعيم مقاومة1871
     استعرض قواته بمجانة وتوزع المبعوثون لإبلاغ  الاعراش والقبائل بإعلان الجهاد ضد الاستعمار الفرنسي، وفي صباح يوم الخميس 16مارس 1871 بدأ بالهجوم على برج بوعريريج بقوة تقدر بحوالي ستة آلاف فارس خاضوا قتالا شرسا على المدينة المحصنة بدفاعات الجيش الفرنسي و الكولون وفرض عليها حصارا إلى غاية وصول إمدادات الجيش الفرنسي من جهة سطيف يوم 26مارس 1871. 
    وأصبح الفرنسيون يحيون ذكرى 26مارس في برج بوعريريج بحفل كبير يتذكرون فيه نجاتهم من قبضة المقراني.
       تزايد نشاط الثوار شرقا حتى المهدية بوابة سطيف وفي نفس الوقت قــاد الجنيرال saussie سويسي هجوما على مجانة وما جاورها فنسف برج القصر بمجانة وأحرق عدة منازل وخرب كثيرا من ممتلكات السكان كما امتد لهيب الثوار إلى سور الغزلان لمقارعة جيش الجنرال ـ سيريزـ .Sirise 
       في 8افريل 1871 أعلن الشيخ الحداد الجهاد و الانضمام لثورة المقراني، هو ما دفع قسما كبيرا من سكان جرجرة و البابور وحوض الصومام إلى الالتحاق بالثورة،حتى صارت ثورة عارمة وصلت إلى ضواحي شرشال والمدية و الاوراس.
       بكدية المسدور قرب البويرة وقف محمد المقراني لأداء صلاة العصر وإذا بطلقة رصاص تصيبه من خلفه في الجهة اليسرى من صدره استشهد على إثرها في 5 ماي 1871.
بومزراق المقراني :
 واصل بومزراق شقيق محمد المقراني الثورة بمؤازرة الشيخ الحداد وابنيه محمد وعزيز (الزاوية الرحمانية) وحصلت معارك كثيرة أحصتها مصادر الجيش الفرنسي 340 معركة خاضها حوالي 250الف فارس ولما أدرك بومزراق بأن إمدادات وتعداد الجيش الفرنسي قد تضاعف، وأن أكثر قادته استشهدوا وأكبر العائلات تستسلم تباعا للقوات الفرنسية نتيجة للضعف الذي أصابها بالإضافة إلى ضعاف النفوس الذين يخونونه من حين لأخر. 
     غادر يوم 12 اكتوبر1872 زمالته بمنطقة أولاد خلوف القريبة من قلعة بني حماد و كانت تتواجد بها عائلة أولاد مقران بعد نزوحهم من قلعة بني عباس و مجانة وقــادهم في قافــلة تحملهم خيولا وجمالا تحت حراسة كوكبة من الفرسان متجهة إلى الجنوب مرورا بزاوية الهامل تاركين الرضع من الأطفال ومن لا يقدر على المسير نحو الصحراء وفي الطريق التقوا ـ ابن ناصر بن شهرةـ وهو بطل من أبطال مقاومة الأمير عبد القادر فخصهم بالترحاب والضيافة وكان من ورائهم يتتبع آثار حلهم و ترحالهم جيشا فرنسيا تحت قيادة الجينيرال ـ دو لاكرواـ والعقيد ـ فلوقني ـ والنقيب ـ روز ـ 
اطمأن بومزراق بأن عائلته بين أيد أمينة ستقودها إلى الجنوب التونسي ومنها تتوجه إلى الشام (سوريا ) وبعد مشاورات قرر العودة بنية إعادة التنظيم ومواصلة الثورة لكنه تاه في الصحراء والقي عليه القبض قرب واحة الرويسات القريبة من ورقلة ونقل إلى معسكر ـ الجينيرال ـ دو لاكروا ـ الذي حوله إلى سجن الكدية بقسنطينة أين التقى بالشيخ الحداد وابنيه   
ثم أصدرت المحكمة في حقه حكمها الجائر بالإعدام وخفف الحكم بعد ذلك إلى النفي رفقة عزيز بن الحداد وأكثر من مائتين من الثوار إلى كاليدونيا الجديد بالمحيط الهادي.
  في كاليدونيا الجديد: لم يلبث به المقام مطولا  حتى بدأ بالحركة و النشاط في هذه الجزيرة النائية، فساعد السكان الأصليين للجزيرة للقيام بثورة ضد الفرنسيين سميت بثورة ( الكاناك).
    بقى بومزراق في منفاه قرابة ثلاثة عقود من الزمن ثم عاد من ميناء إلى آخر إلى أن وصل الجزائر العاصمة سنة1903م وتوفي بها بعد سنتين بعيدا عن مجانة موطن أجداده عام 1905م.
       نتائج ثورة المقراني : 
لم يقتصر اثر ثورة المقراني على عائلته التي صودرت جميع أملاكها وعقاراتها وأصيبت بالتشتت،فأولاد محمد المقراني نجدهم قد هجروا إلى سطيف والجزائر العاصمة وتيارت وعين الدفلى والاصنام سابقا ،ولبومزراق ابن وحيد هو الونوغي الذي كان إماما ومفتيا بمسجد سيدي امحمد بالجزائر العاصمة
      وأما بقية العائلة :أولاد ابن عبد الله  ،وأولاد بن عبد الرحمن استقروا بتونس ،ومن المقرانيين من توجهوا الى بجاية وجيجل ،وأما حالة فرسان الحشم وعائلاتهم فقد نكلت بهم السلطات العسكرية وهجرتهم إلى بوحمادوا ، المسيلة ،كما تم ملاحقة اولاد بورنان.
    وأما السكان اجبروا على دفع تعويضات الحرب وسيق الكثير منهم إلى المحاكم وأصدرت في حقهم أحكاما قاسية منها الإعدام والسجن المؤبد والنفي إلى جزيرة كاليدونيا الجديدة بالمحيط الهادي وجزيرة غويانا الفرنسية بالمحيط الأطلسي والكل اختفى عن أعين السلطات الاستعمارية.
 بصمات أولاد مقران في حرب التحرير الوطنية: الأمثلة تطول و تتنوع،لكن نقدم بعض النماذج: 
     أولا: الشهيد الرائد سي لخضر:  سي لخضر هو البطل " رابح مقراني" ،الذي تمكن من حفر اسمه بأحرف من نور و ذهب في تاريخ الثورة الجزائرية و تمكن من تسطير ملاحم عسكرية لا يزال صداها يلعلع قويا في جبال الأخضرية بولاية البويرة و تابلاط و العيساوية و بني سليمان عبر تراب ولاية المدية
اشرف على عدة معارك، والتي وصفها واحدة منها أحمد أرسلان بقوله: "في وادي المالح كان سي لخضر يقتل ويذبح وفرنسا هاربة بلا نظام"، سقط شهيدا رفقة 70 مجاهدا في الخامس من مارس 1958 بجبل بولقرون التابع لبلدية جواب بشرق المدية. و سميت مدينة لخضرية نسبة إلى الشهيد رابح مقراني المدعو "سي لخضر".
      ثانيا: سي  بلقاسم  المقراني،مؤسس فريق جبهة التحرير الوطني لكرة القدم:  هو البطل محمد بومزراق،ابن الإمام المفتي الشيخ الونوغي المقراني، يعرف عن المرحوم سي بلقاسم أنه من بين الأشخاص الذين ساهموا بشكل فعال في تكوين فريق جبهة التحرير الوطني لكرة القدم بأمر من فيديرالية فرنسا للجبهة . قبل التحاقه بفرنسا ، كان بومزراق لاعب كرة القدم بنادي اورليونفيل (الشلف حاليا) ليصبح فيما بعد لاعبا محترفا بنادي لومانس ثم نادي بوردو، وأنهى مشواره الاحترافي سنة 1945 .
و قد تبلورت في ذهنه فكرة إنشاء فريق جزائري يخدم قضية الثورة خلال مشاركته بموسكو في مهرجان الشبيبة العالمية سنة 1957، 
 درب بومزراق فريق جبهة التحرير الوطني و بقي ملازما له كمسؤول عنه إلى غاية الاستقلال، توفي في 1989 ويحمل ملعب الشلف اسمه .
      ثالثا: المقرانيون و الدعم اللوجستيكي  للثورة: في ملتقى المقراني  بالمكتبة الوطنية بالحامة يوم 7 ماي 2001  قال العقيد الطاهر الزبيري عضو مجلس الثورة الجزائرية : وللتاريخ عائلة المقراني التي كانت تتواجد على الشريط الحدودي الجزائري التونسي قدمت النفس والنفيس وأعطت قوة معنوية لأفراد جيش التحرير الوطني المسمى بجيش الحدود.و هو دعم لوجستيكي معتبر للمجاهدين في الجهة الشرقية.
   
و الحديث في هذا المجال له كتب و مؤتمرات،غير انه يجب التذكير في النهاية  أن الأوضاع الداخلية والخارجية للجزائر في عام 1871م  كانت مساعدة جدا على ظهور ثورة قوية بقيادة الحاج محمد المقراني رحمه الله، انطلقت من مجانة و امتدت إلى نصف البلاد من الحدود الشرقية إلى  شرشال والمدية غربا ومن بجاية شمالا إلى عين صالح جنوبا. كانت ثورة شعبية للتعبير عن سخط ورفض للأوضاع الاجتماعية والدينية والاقتصادية والسياسية التي فرضها الاستدمار الفرنسي بقوة الحديد والنار.

بقلم الأستاذ محمود مــقراني " حفيد المقراني " 

من نفس القسم الثقافي