الحدث

المتحف الوطني للمجاهد ...صرح تاريخي يختزل بطولات الجزائر

يعتبر همزة وصل بين جيل اليوم وأبطال الثورة التحريرية

وأنت تمر بشوارع العاصمة وبالتحديد من امام "مقام الشهيد" الشامخ، يقابلك صرح  تاريخي يروي بطولات وأمجاد الجزائر ويربط جيل اليوم بأبطال الأمس، إنه "المتحف الوطني للمجاهد" الشاهد على تضحيات الشهداء ونافذة الجزائر على الثورة التحريرية، المار بأجنحته المزينة بصور المجاهدين والزعماء يتلقى جرعة زائدة من الفخر والاعتزاز، ويدرك جيدا ثقل الأمانة التي تركها الشهداء الأبرار وحجم التضحيات التي قدموها في سبيل تحرير هذا الوطن الغالي، كما تفضح أقسامه جرائم المستعمر الجبان وتعري حقيقته الاستدمارية وممارساته البربرية في حق الشعب الجزائري البطل الذي فاز في النهاية واسترجع امجاده وأرضه، وصنع الانفراد ودوّن التاريخ بحروف من ذهب تروي للعالم تفاصيل أعظم الثورات وتضحيات أشجع الرجال. 

"متحفي ذاكرتي".. جيل اليوم يتلقى رسالة الشهداء

نجح المتحف الوطني للمجاهد في ان يكون القبلة الأولى للزوار خلال العطلة الشتوية بفضل البرنامج الثري لذي سطره بالمناسبة لفائدة التلاميذ ومختلف فئات المجتمع، والذي ينظمه لغاية الخامس من جانفي الجاري تحت شعار "متحفي ذاكرتي"، واستطاع المتحف أن يسجل أرقاما قياسية بالنسبة لعدد الزوار فحسب المنظمين يفوق عدد الوافدين يوميا آلاف الزوار من مختلف ولايات الوطن وفئات المجتمع، غير أن تلاميذ المدارس يعتبرون الفئة الأكثر حضورا خلال العطلة، ما يعكس تجذر الروح الوطنية في الجيل الجديد ونجاح الاولياء والمربين في غرس القيم الوطنية وحب الجزائر في قلوب هؤلاء الأطفال الذين سيحملون في الغد رسالة الشهداء ويصونون كرامة هذا الوطن الغالي.

ولقد سطرت إدارة المتحف الوطني للمجاهد برنامجا غنيا لفائدة الزوار تزامنا والعطلة الشتوية، تتخلله عروض لأشرطة وثائقية خاصة بالأيام والأعياد الوطنية والمناسبات التاريخية، ومسيرة أبطال الجزائر على غرار الشهيد ديدوش مراد، كما تقدم العروض شهادة على مسيرة المرأة الجزائرية عبر التاريخ بدءا بالدور الذي لعبته إبان الثورة التحريرية وصولا إلى مرحلة البناء والتعمير، ولخلق جو من مالنافسة لدى الأطفال عمدت إدارة المتحف على تنظيم مسابقة رقمية ترفيهية ثقافية وتاريخية للأطوار التعليمية الثلاثة فما فوق، تحت عنوان "اهتبر ذاكرتك"، من اجل تشجيع المشاركين على تحيين معلوماتهم التاريخية وإثرائها، دعّمتها بمبادرة طيبة تقوم من خلالها بتكريم الاطفال المشاركين ومنحهم " جائزة المتحفي الصغير"، مع تنظيم ورشة للرسم للأطفال وحصص للقراءة الموجهة من خلال عرض سلسلة "أمجاد الجزائر"، وتنظيم زيارة بيداغوجية للمتحف.

وتهدف إدارة المتحف الوطني للمجاهد من خلال هذا البرنامج إلى ترسيخ مبادئ نوفمبر وقيم الثورة التحريرية في نفوس الجيل الجديد، وتعريفه بتاريخ بلاده المشرف وجعله يعايش تلك الحقبة المفخرة من تاريخنا المجيد لدى تجوله بمختلف أرجاء هذا الصرح التاريخي، الذي نجح دوما في تبليغ رسالة الشهداء وصونها.

متحف المجاهد ... شاهد على بطولات الجزائر

على قمة شامخة شموخ بطولات الجزائر، شيّد المتحف الوطني للمجاهد في 5 جويلية 1982 ليكون شاهدا على نضال رجالات هذا الوطن في وجه المستعمر الفرنسي، ويقدم لزواره صورة واقعية عما عاشه أجدادنا من ويلات الحرب ومقاومتهم الباسلة لآلة الدمار التي حاولت لعقود من الزمن طمس الهوية الوطنية وتجريد الجزائريين من أرضهم، غير أنها اصطدمت بعزيمة ووطنية نادرة ينفرد بها أبناء الجزائر حولت أسلحتهم الفتاكة إلى "خردة" تفقد هيبتها وقوتها أمام شجاعة الثوار وبسالة المجاهدين.

بمجرد دخولك بهو المتحف الوطني للمجاهد، يأخذك الديكور الخاص الذي زين به هذا الصرح التاريخي، في رحلة عبر الزمن البطولي للجزائر، فالترتيب التاريخي المعتمد في توزيع أجنحته وأقسامه، يقدم صورة واقعية تحاكي ما عايشه الجزائريون عبر العصور بداية من العهد العثماني فالثورات الشعبية وصولا إلى التحضير والترتيب للثورة التحريرية والمعارك البطولية التي قادها أسود الجزائر الأبطال، مرورا بأهم المحطات والمناسبات التاريخية التي تخللت الثورة المجيدة، لنصل ختاما إلى فترة ما بعد الاستقلال، في ترتيب يجعل المتجول في أجنحة المتحف يغادره وبداخله شحنة من المشاعر ممزوجة بالافتخار والاعتزاز، وكله عزم على حفظ أمانة الشهداء وصون هذا الوطن الحبيب الذي ما كان لينعم بالأمن والتطور الذي هو عليه لولا تضحيات الرجال وعزيمة الأخيار.

مرحبا بكم في قصر الداي حسين....

بعد دخول الزوار لبهو المتحف المزين بصور رؤساء الجزائر المتعاقبين، يمرون عبر رواق طويل زينت أطرافه  بصور الشهداء والمجاهدين وحملت الرفوف المرصوصة على جوانبه كتبا تاريخية وأوسمة تمجد بطولات الثوار وتثمن الدور البارز الذي يؤديه المتحف الوطني للمجاهد في سبيل الحفاظ على الذاكرة وتبليغ رسالة الشهداء لجيل الغد، ليستقبلك في أول أقسام المتحف مجسم كبير يتوسط جناح "المقاومة الشعبية 1830/1848"، يصور قصر الداي حسين خلال القرن الـ16، ليروي بطولات تلك الحقبة وعظمة الدولة الجزائرية آنذاك من خلال استعراض مختلف المعاهدات المبرمة بين إيالات الجزائر وقادة الدول الأوروبية خلال الفترة العثمانية أين كانت الجزائر تفرض آنذاك شروطا خاصة لإبحار السفن ومنح التراخيص لملاحة البواخر التجارية، كما يقدم الجناح عرضا مصورا لأهم المعارك البحرية والبرية التي خاضها باشاوات ودايات الجزائر خلال تلك الحقبة.

وأكثر ما يشد انتباه الزوار في هذا القسم تلك اللوحة الزيتية الضخمة التي تجسد "حادثة المروحة" فتروي شهادة جديدة عن مزاعم فرنسا وادعاءاتها وحججها الواهية وغير المؤسسة لاستعمار الجزائر، كما تفضح جبن وخذلان القادة الفرنسيين آنذاك وعجزهم عن تبرير جرائمهم وعدوانهم على أرض الجزائر.

ولو تقدمنا قليلا ستروي لنا تماثيل ومجسمات الفرسان وقادة المقاومة الشعبية، تفاصيل أكثر الملحمات بطولة، وتقص على مسامع الزوار تفاصيل مشرفة عن تضحيات ومعارك لا يخوضها إلا من كان يجري بعروقه دم جزائري حر يرفض الاستسلام للمستعمر ويأبى التفريط في شبر من ارض وطنه الغالي، فهاهو تمثال الأمير عبد القادر شامخ شموخ هذا الزعيم البطل يقابله أحمد باي المجسد في تمثال ولوحة زيتية هما أقل تقدير واعتراف ببطولات هؤلاء الرجال الأشاوس، وغيرهم من قادرة الثورات الشعبية التي يستعرض بهو القاعة التي تشمل مجسماتهم مختلف الأسلحة والسيوف المستعملة خلال تلك الفترة من بنادق وبواريد وخناجر وسيوف.

عندما تتحدث المجسمات ....

 أكثر ما يشد انتباه الزوار والمتجولين بهذا القسم، مجسم يتربع على الزاوية اليمنى من الجناح لقدم صورة مصغرة عن عاصمة دولة الأمير عبد القادر "الزمالة" المتنقلة، ويروي تفاصيل معيشة الأهالي آنذاك الذين كانوا يتنقلون بالجمال وينصبون الخيم بكل تنظيم وتنسيق، فيما يفضح مجسم "محرقة قبيلة أولاد رياح" بغار الفراشيش بجبال الظهرة بلدية القمارية ولاية مستغانم في 18 جوان 1845، جرائم فرنسا البشة والتعذيب الذي مارسته ضد الجزائريين منذ وطئت أقدامها النجسة أرض الجزائر الطاهرة، ويحيط المجسم تماثيل لأبطال المقاومة الشعبية في رسالة واضحة تؤكد أن للجزائر رجال يحمونها وأسود يقفون في وجه أي عدو ويتصدون للمستعمر مهما طغى وتطورت أسلحته وأساليب تعذيبه، فبمرورك من أمام تمثال الزعيم أحمد بوزيان والشريف بوبغلة والمقراني ولالة فاطمة نسومر والشيخ الحداد، تشعر وكأنك في قطعة أخرى من العالم زادها الشموخ وهواؤها الحرية والعزة.

ثار الأحرار...

بعد مرورك بجناح المقاومة الشعبية تكون قد حصلت على جرعة زائدة من الفخر والاعتزاز بأمجاد هذا الوطن، لتضاعفها بالوصول إلى جناح "الثورة التحريرية 1954/1962"، فتمر بمختلف مراحل التخطيط والتحضير لأعظم ثورة في التاريخ وأمجدها فيرتفع لديك هرمون المجد ويزيد شغفك وحماسك للتعرف أكثر عن تفاصيل مقاومة رجال لم يتجاوزوا سن العشرين ونجحوا في دك صفوف أعتى الجيوش وأشرسها بفضل عزيمتهم ووفائهم.

وأنت تسير بهذا الجناح يقابلك على اليمين جناح الحركة الوطنية 1919/1954، ليعكس مدى الوعي واليقظة التي تحلى بها القادة الجزائريون آنذاك والتخطيط المحكم للثورة، أما الجهة اليسرى فقد زينت بصور أعظم رجالات الثورة وأطهر الأسماء اللامعة في تاريخ الثورة الجزائرية، فهنا لوحة ضخمة تجسد شخصيات مجموعة الـ22 التاريخية وأمامها لوحة مماثلة تروي تفاصيل اجتماع مجموعة ال6 البطلة، وحرص القائمون على المتحف على وضع مجسم مصغر في بهو القاعة يصور مشهدا مروعا لمجزرة شعبة الآخرة بخراطة، بجاية المقترفة ذات ثامن من ماي 1945 من طرف اجبن الاستعمارات وأنذلها.

وعلى طول الرواق المؤدي إلى الجهة المقابلة، زينت الساحة بعينات من الوسائل المستعملة إبان الثورة التحريرية، ونماذج من الأسلحة والأدوات المستعملة في بداياتها، لتجذبك من بعيد "آلة رونيو" التي نالت شرف سحب بيان أول نوفمبر 1954، الذي أضحى مرجع الجزائر في سن القوانين والدساتير على مر السنوات.

حذار....هنا "خط الموت"

في زاوية مظلمة يجذب الزوار مشهد مروع مخيف يروي للأجيال الجديدة نوعا ىخر من أنواع الإجرام، ويقص فصلا جديدا من فصول تضحيات الشهداء الأبرار والمجاهدين في سبيل الحرية، مشاهد خيالية تبدو للضيوف وكأنها حقيقية لتصور الخط اللعين أو "خط الموت"، إنه خط شال وموريس" المكهرب الذي أقامه المستعمر الفرنسي سنة 1958 على طول الحدود الجزائرية التونسية انطلاقا من بلدية أم الطبول بالطارف شمالا إلى بلدية نقرين بتبسة جنوبا، الشاهد على تضحيات المئات من الشهداء، ويصور المشهد كيف وضع المستعمر الفرنسي الأسلاك الشائكة وزودها بـ 6 خطوط مكهربة عرضها 12 مترا بقوة 15 ألف فولط ليدعمها بألغام مضادة للأفراد وأسلاك شائكة متصلة بمراكز الحراسة والمراقبة بغية منع المتسللين للداخل أو الخارج، غير أن إرادة المجاهدين وتضحياتهم مكنتهم مع مرور الوقت من التوصل إلى كيفية اختراقه وتحطيم مساحات منه وإحداث ثغرات للتسلل عبره.

روح زبانة الطاهرة تعطر المكان....

ولعل أكثر الزوايا التي تجذب انتباه الزوار تبقى الساحة المنصبة على يسار الرواق والتي تجسد مشهد إعدام الشهيد أحمد زهانة بالمقصلة وتروي تفاصيل بشعة عن ذلك اليوم المشؤوم، ليزيد نص رسالة الشهيد لوالدته قبل إعدامه المشهد تأثيرا ويبعث في نفوس الزوار شعورا بالاعتزاز بتضحيات الشهداء وبطولاتهم، كيف لا والجدارية الضخمة التي تحمل اسماء 160 شهيد أعدموا بالمقصلة شاهد آخر على أساليب الاعدام الرخيصة والبربرية التي كان ينفذها الاستعمار الجبان.

سجون المستعمر...ممنوع على القلوب الضعيفة

وغير بعيد عن هذا المشهد المؤثر، زاوية ممنوعة على أصحاب القلوب الضعيفة وعلى الاطفال الصغار، تجسد أساليب التعذيب البشعة وغير الانسانية التي كان يمارسها المستعمر الجبان ضد المعتقلين الجزائريين، غير انها وإن كانت تثير في نفوس الزوار الشعور بالاشمئزاز والغضب إلا أنها تعتبر مصدر فخر لهم بصمود الرجال وعدم رضوخهم للمستعمر وتحملهم لأقسى أنواع العذاب دون الكشف عن أسرار الثورة والثوار، فرحمة الله على رجال ونساء الجزائر.

إنه الاستقلال....

بمجرد أن تمر بالرواق المزين باللوحات المجسدة لمظاهرات 11 ديسمبر، تشد انتباهك أصوات زغاريد النساء، ويقابلك مشهد مؤثر يعلن عن استقلال الجزائر، نعم إنه 5 جويلية 1962، هنا الراية الوطنية حاضرة والحايك الجزائري يزين الشوارع والحناجر تدوي بالزغاريت والصيحات تحيا الجزائر، نعم إنه الشعب البطل الذي حرر وطنه وطرد أشرس الجيوش وجعلها تجر ذيول الخيبة وتقر بأن الجزائر للجزائريين وأن هذا الشعب فريد من نوعه لا نشبه أحدا ولا أحد يشبهنا، استقلال وإن جاء بثمن باهظ ملايين الأرواح الطاهرة قدمت من أجله، غير أنه أعاد لنا عزتنا وكرامتنا وجعلنا نفتخر بأمجاد أجدادنا وشهدائنا، كما حمّلنا أنبل رسالة في الوجود وهي حماية الجزائر والدفاع عن كرامتها ووحدتها والتصدي لأي خطر قد يواجهها.

من نفس القسم الحدث