الوطن

"مدينة مليانة".. شاهد آخر على تاريخ الجزائر العريق

بمعالمها التاريخية وماضيها النضالي ضد الغزاة

وأنت تتجول بمدينة مليانة العريقة بين أزقتها وشوارعها، تشدك أشجارها الألفية وبناياتها الجميلة، ناهيك عن عذب الحديث مع ساكنتها الأصيلة التي لا تزال تحافظ على عادتها وتقاليدها، شواهد ومشاهد لا تزال واقفة لتروي تاريخ مليانة الحافل بالأحداث والذكريات، متحف الأمير عبد القادر بدوره يشكل قبلة كل الزوار الذين يتوافدون على المدينة، معلم تاريخي يحتفظ بمخطوطات وأثار عديدة تحكي بدورها عراقة مليانة المدينة الثورية التي وقفت في وجه الغزاة.

الموقع الجغرافي لمدينة "حب الملوك" 

تقع مدينة مليانة بولاية عين الدفلى على بعد 100 كلم غرب العاصمة الجزائرية، هي ليست مجرد مدينة ذات تاريخ مرتبط بوجوه ثورية واجهت الاستعمار الفرنسي، أمثال الشهيد علي لابوانت والشهيد أحمد بوقرة ومؤسس الكشافة الجزائرية محمد بوراس، بل هي مدينة ضاربة في عمق التاريخ، تجمع الجمال الطبيعي والمعالم التاريخية والأعياد الشعبية، كعيد الكرز، الذي يعرف في المنطقة بنوعيته الرفيعة لدرجة تسميته بـ«حَبُ الملوك»، إضافة إلى الأعياد الدينية كالمولد النبوي الشريف ومولد سيدي أحمد بن يوسف وهذه العوامل كلها اجتمعت لتجعل من المدينة مقصداً مغرياً للسياح والزوار.

 مدينة " زوكبار" ذات الملامح القديمة والطابع الارستقراطي

مليانة أو ” زوكابار” كما كانت تسمى في العهد الروماني  و التي تعني ( سوق القمح )عندما أسسها الإمبراطور اوكتافيوس بين سنتي 25 و27 ق م وجعلها حامية عسكرية مطلة على سهل شلف . ولا زالت هذه المدينة العريقة تحتفظ بالكثير من ملامحها القديمة و الطابع العمراني الذي يعطي لأي زائر انطباعا عن المراحل التاريخية التي مرت بها المدينة  والشوارع الواسعة والنظيفة، أسطح البنيات العتيقة بقايا الأسوار وحتى بلاط الأرصفة و طبيعة السكان المتحفظين مع الكثير من الارستقراطية التي يقال إن سكانها ورثوها عن أجدادهم الرومان و الامازيغ والأتراك و حتى انك تجدهذه العيش الاستقراطي  حاضرا في ايامنا هذه في مختلف المناسبات والأعياد  .

مدينة مليانة ملتقى الحضارات

أبواب المدينة الثلاثة التي تتحصن خلفها مليانة ككل المدن العريقة ” الباب الغربي ” "باب زكار ” و” باب الجزاير”. وهذا الاخير يستقبل اعدادا هائلة من الزوار يوميا وأن اغلب زوار المتحف هم من الأجانب والمولودين بالمنطقة والراغبين في التعرف على جزء من تاريخهم وجذورهم أو الاطلاع على تاريخهم كما نذكر منهم الفنانة القديرة بهية راشدي واخرين بالاضافة الى الكثير من السفراء مثل سفير الصين و فرنسا و غيرهم .

 متحف " الامير عبد القادر" تأريخ وتاريخ

خلال زيارتك لمتحف الأمير عبد القادر، تجد نفسك تنتقل من حقبة إلى حقبة ومن مرحلة الى مرحلة وأنت تنظر إلى الصور والكنوز التي توجد امامك والتي تريد ان تروي لك  بطولات الأمجاد وزغاريد النساء وجري الأطفال وتروي شغفك بالتاريخ وتجعلك تفتخر بهويتك وانتمائك الجغرافي والثقافي، نفسها تلك الآثار الجميلة والمعبرة تقاسمك لحظات الحزن وأوقات العز والمجد.

 وللإطلاع على المزيد من التفاصيل، ساعف الحظ فريق جريدة الرائد، ليحظى بمرافقة نائبة مدير المتحف "سمية عمروش" التي أفاضت علينا بسيل من الشروحات، لا سيما فيما يعتلق بتاريخ هذا المتحف .

متحف الأمير عبد القادر عبارة عن بناية تركية قديمة كانت في السابق مقرا للقائد التركي تسمي ” دار الباي ” ثم تحولت إلى “دار الأمير” عندما استولى الأمير عبد القادر على مدينة مليانة عام 1835. وقد مر من هذه البناية الإمبراطور "لويس" كما زار نابليون الثالث في مايو 1865 مدينة مليانة وتمشى في اروقة المتحف و عندما سقطت المدينة على يد الاحتلال الفرنسي سنة 1840حول المبنى من دار الأمير الي ثكنة عسكرية في الجناح أ اما الجناح ب فحولها الي إقامة عائلات الجينيرالات الفرنسية.

ويتشكل المتحف من طابقين وخمس قاعات كبرى تختصر كلها تاريخ المدينة الممتد عبر القرون ، قاعة الآثار الرومانية التي تؤرخ لنكبات الملك الامازيغي ” يوغورطة” الذي انهزم على يد القائد الروماني اوكتافيوس عام 105 ق.م والذي أسس فيما بعد مدينة زوكابار( سوق القمح ) المعروفة اليوم باسم مليانة . في هذه القاعة تنام مجسمات لرؤوس وصور للأمراء والملوك الذين طبعوا المرحلة من الملك "يوغورطا" إلى "اكتافيوس" الروماني و"كليوباترا سليني الثانية " .

وبجانب القاعة الرومانية مباشرة نجد قاعة المقاومة الشعبية ، نجد أسلحة بيضاء وبشطولات التي استعملت أثناء المقاومة الشعبية حيث نجد تراث شيوخ المقاومة الشعبية من "الشيخ الحداد" إلى "بوبغلة" إلى "الأمير عبد القادر" ، ونقود كتب على بعضها " لا اله الا الله و المهدي نبي الله "، سيوف، مسدسات قديمة ، بنادق وغيرها من الوسائل المتواضعة التي كان الثوار يواجهون بها فرنسا وحتى قيود "الشيخ الحداد" ما تزال في هذا المتحف شاهدة على وحشية الاستعمار الفرنسي . في نفس القاعة تلبس الجدران تفاصيل المعارك الضارية التي خاضها الأمير ضد المستعمر بكل وقائعها اليوم الشهر والسنة وحتى الصور إضافة إلى التقسيم الإداري والعسكري لدولة الأمير وزمالة ( المدينة المتحركة للامير ).

 وفي قلب قاعة المقاومة الشعبية تنفتح الأبواب مباشرة على قاعة اكبر قليلا تتوسطها طاولة كبيرة كانت تلك قاعة المخطوطات و الاثنوغرافيا التي تحتوى على مخطوطات قديمة في علوم الدين واللغة والحساب يعود تاريخها إلى القرنين 18م و 19م إلى جانب قاعات أخرى تضم الحلي وبعض الصناعات التقليدية والكنوز القديمة التي يعود تاريخها لعهد الموحدين في القرن الثاني عشر للميلاد .

وبنفس المتحف تم تخصيص قاعة صغيرة لعرض التراث المنجمي لزكار حيث نجد مجموعة من الصور والوثائق تفصل في تاريخ استغلال مناجم زكار و استغلال الاستعمار الفرنسي لابناء هذا الوطن و استعبادهم من اجل استخراج مادة الحديد و التي بني بها " برج ايفل " بفرنسا . ثم اغلق هذا المنجم  بأمر من الرئيس الراحل "هواري بومدين" بعد الانهيارات العديدة التي شهدتها و كثرة المياه  و تم تعويض سكان المنطقة بالديوان الوطني للمتفجرات "بزوقالة" .

أما القاعة الأخيرة، فقد ضمت ملخصا بالصور والوثائق واللوحات الزيتية لكفاح ونضال الشعب الجزائري ضد فرنسا إبان الثورة المضفرة حيث سجلت بالصور أسماء أشهر شهداء والشخصيات التاريخية للمنطقة الخليفة "بن علال " ،"محمد بوراس " ، "علي عمار" و المعروف بـ "علي لابوانت"  و"مصطفى فروخي "وغيرهم …وهناك صور لشهداء الوطن بالمنطقة دون اسماء  .ومن بين احد هذه اللوحات الزيتية هناك لوحة كانت تمثل "معركة غرغور"الشهيرة بالمنطقة  بتاريخ 17 اكتوبر 1957 م و التي استشهد فيها العديد من المجاهدين بسبب الخيانة بعد محاولتهم اقتحام الثكنة العسكرية الفرنسية عبر بلوعات المجاري  وتم عرض جثثهم في النافورة بوسط المدينة.

ويفضي الطابق العلوي إلى طابق أرضي عن طريق أدراج رخامية لا زالت تحتفظ بطريقة بنائها التركية في الطابق الأرضي، حيث يتوسط القاعة صحن ضم الورود ونافورة الماء نجد حمام الأمير عبد القادر على هيئته القديمة منذ العهد التركي وفرن طهي الخبز أو ما يسمى ” بالكوشة ” هنا نجد عرضا مفصلا لمداخل وأبواب المدينة القديمة وخريطة تفصيلية إلى جانب أهم أعلام وأولياء مليانة أشهرهم "سيدي احمد بن يوسف الراشدي" الولي الصالح الذي تنسب اليه عدة كرامات ونسجت حوله الأساطير، حيث يقال انه دعا على الزيانيين الذين أمروا بقتله خشية أن يؤدي نفوذه المتزايد إلى زحزحة سلطانهم حيث لجأ إلى هليل بين قبائل "بني اردو" وأقام زاويته هناك وقال ” شوشوا علينا يشوش الله عليهم في البر والبحر ” فلم يمض إلا القليل حتى استولى الأسبان على وهران واخذ الأتراك تلمسان ، وقد هز "سيدي احمد بن يوسف" كيان الدولة الزيانية وكان له دور سياسي مهم في عهد الأتراك الذين كثفوا من الاتصالات معه وقربوه من حكامهم خشية أن يؤلب ضدهم السكان خاصة في القرنين 15 م و 17 م.

 حكاية " سور" من حجر لم يندثر

خلف متحف الأمير عبد القادر يقع ” السور” وهي تسمية لجزء كبير من بقايا تحصينات المدينة القديمة و التي أعيد بناؤها على هيئة سور كبير يحمي المدينة ويطل على الجبال والقرى الصغيرة التي تنام في عمق الوادي وكأن المدينة تطل على كورنيش طبيعي من الرمال والجبال و النباتات والأشجار النادرة التي لم تفلح حرارة الصيف من أن تهزم تلك الخضرة التي تمتد على مد البصر الا ان هذا السور تم ردمه مع مسجد البطحاء و حول الى ساحة و منتزه للعائلات و ملتقى للأصدقاء التي تتخذ من المقاهي البسيطة المنتشرة على طوله مكاناً للراحة والاستمتاع بالجو خصوصاً في مساءات الصيف ويطوق السور الجهة الجنوبية لمليانة ويعطي رؤية بانورامية لمدينة «الخميس» الواقعة على بعد 9 كيلومترات أسفلها.

ويشيع حال السور انطباعاً صريحاً ومباشراً بإهمال رسمي فظيع وغير مبررمن طرف السلطات المحلية و مديرية الثقافة لولاية عين الدفلى  ، فقد تداعى جزء منه وسقط عام 2012 بسبب الرياح والأمطار، وتعرض جزء آخر للتلويث المتعمد منعاً لتجمع العشّاق. أنشأ السور في الفترة الرومانية كحماية للمدينة، وهو الآن بحاجة إلى من يحميه من الأيادي المخرّبة.

 من منارة مسجد الى ساعة بالمدينة

ومن الآثار التاريخية لمليانة كذلك والتي تعتبر امتداد لقلعة الامير"مسجد البطحاء"، الذي يعود تاريخ إنشائه إلى الحقبة العثمانية، مقراً لإقامة الخليفة وهو واحد من 25 مسجداً كان موجوداً آنذاك في المدينة و التي حولها الاستدمار الفرنسي الى اسطبلات للحيوانات و كنائس و لا يتواجد بها الان الا خمسة مساجد فقط . ولقد خرّبه المستعمر الفرنسي عام 1844 وجعل من أرضيته ساحة فسيحة أطلق عليها اسم «ساحة كارنو»، ولم يُبقِ سوى على منارته التي حولها إلى ساعة والتي يتم شحنها كل  72 ساعة منذ عصور عدة ، كما يتواجد هنالك نفق تحت هذه المنارة يؤدي الى خارج الأسوار ويؤدي كذلك الى جبل زكار و كان يستعمله المقاومون اثناء الحروب . أطلق اسم القديس « سانت بول » على الشارع الذي يضمها، والآن تنسب الساحة إلى الأمير عبد القادر.

 

انتهت رحلتنا التي قادتنا إلى هذه المدينة المضيافة، التي ستظل حامية للقلاع بمعالهما التاريخية والسياحية، لتكون قبلة كل زائر وتروي عطش كل باحث عن العراقة والأصالة في قلب الوطن.

من نفس القسم الوطن