دولي

نحو حل معادلة المقاومة والسلطة في غزة

القلم الفلسطيني

شهد قطاع غزة، في الأيام القليلة الماضية، تظاهراتٍ احتجاجية على غلاء الأسعار والظروف الاقتصادية والمعيشية الصعبة التي يعيشها أبناء القطاع، بفعل الحصار المفروض عليه منذ أعوام، والتي فاقمتها ظروف الحرب، والاجتياحات المتكرّرة، وإجراءات السلطة الفلسطينية في رام الله، وعقوباتها التي فرضتها على أبناء القطاع، وأخيرًا رزمة ضرائب مستحدثة من سلطة حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، طاولت الخبز والسجائر وسلعاً أخرى. تصدت الأجهزة الأمنية التابعة لسلطة "حماس" للحراك الذي بدا، في أول الأمر، وكأنه عفوي، انطلق تحت شعار "بدنا نعيش"، بقسوةٍ بالغة، تجاوزت تلك القسوة المعروفة عن أجهزة الأمن الفلسطينية في الضفة الغربية، حين تصدّت لحراكاتٍ مماثلة، احتجت على قانون الضمان الاجتماعي، أو انتقدت سياسات السلطة الفلسطينية.

ولأن مبررات قمع أي حراك جاهزة دومًا عند الأجهزة الأمنية المختلفة، داخل فلسطين وخارجها، فإن الاتهامات انتشرت بوجود مؤامراتٍ تُحاك، وأجنداتٍ خارجية، ودسائس وتآمر على المشروع الوطني، واستهداف النظام أو المقاومة في حالتنا هذه، لتبرير حملةٍ غير مسبوقة، شملت اعتقال العشرات، وتفتيش المنازل، وحصار أحياء. وطاولت هذه الاعتقالات ناشطين في مجال حقوق الإنسان وصحافيين، وامتلأت وسائل التواصل الاجتماعي بصور المعتقلين المفرج عنهم، وهم مصابون بكدماتٍ وكسور. وقد تراوحت التعليقات بين من ينتقد تلك الممارسات، متناسيًا تأييده ما يشابهها عندما ارتُكبت في الضفة الغربية، ومن يحتفي بإحباط المؤامرة التي كانت تستهدف صمود القطاع المحاصر ومقاومته. وفي حقيقة الأمر، باتت تلك الصورة الباهتة واحدة للمتحدثين الرسميين الذين يفسرون تلك الحوادث في فلسطين، وفي عالمنا العربي.

ولأن كاتب المقالة يقف بحزمٍ مع المقاومة في تصدّيها للمشروع الصهيوني، ومع أهل غزة في وجه الذين يفرضون عليهم هذا الحصار الظالم، وتلك العقوبات المعيبة، فإنه، ومن هذا الموقع، لا يملك إلا أن يدين تلك الممارسات التي ارتكبتها أجهزة الأمن في غزة، والقمع الذي طاول  هذا الحراك. على أن ثمّة ما هو أهم من ذلك، وهو ضرورة فتح نقاش جاد وحقيقي عن علاقة المقاومة بفصائلها المختلفة، وبالأساس كتائب عز الدين القسام، بشأن إدارة الحياة اليومية للمواطنين، أي بتسلّمها السلطة في قطاع غزة، ومدى تأثير ذلك في المقاومة وصمودها، والحفاظ عليها سلبًا أو إيجابًا، وهو نقاشٌ ينبغي خوضه الآن، وفي هذه اللحظة، وبصراحة كاملة.

منذ سيطرت حركة حماس على قطاع غزة عام 2007، وهي تتمسّك بمشروعين في آن واحد؛ مشروع للسلطة، وآخر للمقاومة. وازداد مشروع السلطة رسوخًا بعد فوزها في انتخابات المجلس التشريعي، ووصول الإخوان المسلمين إلى الحكم في مصر، معتقدةً أن توليها السلطة يحمي مشروع المقاومة التي وقعت على كاهلها أيضًا حماية مشروع السلطة.

خلال تلك الفترة الطويلة، جرت محاولات خجولة لإشراك بعض الفصائل في حكومة "حماس"، لكنها لم تنجح، بسبب رغبة هذه الفصائل في البقاء في موقع وسطي ما بين سلطة "حماس" في غزة، وسلطة الرئيس محمود عباس في رام الله. وكذلك لأن هذه المحاولات، في جوهرها، لم تسعَ إلى بناء شراكة حقيقية مع الفصائل والفعاليات الشعبية، بقدر ما كانت شبيهةً بمحاولات سلطة رام الله، عندما تمنح بعض المقاعد لبعض الفصائل والشخصيات، لتجميل الإطار العام للحكومة التي تتحكم بمفاصلها كلها.

مع الزمن والحصار، والظروف الاقتصادية الصعبة التي يمر بها القطاع، وتزايد حالة الاستقطاب في الساحة الفلسطينية، الناجمة عن الانقسام حول مشروعين مختلفين؛ مشروع المقاومة ومشروع التسوية والمفاوضات، فقد نشأت حالةٌ من التأييد والتعاطف مع حالة المقاومة التي يمثلها القسّام، تعمقت مع التصدّي البطولي في اجتياحات القطاع. في الوقت الذي أُرهقت الإدارة الحكومية التي تسيطر عليها "حماس" بالأعباء اليومية والمعيشية والاقتصادية، وتحملت وحدها، في ظل أعباء الحصار وتحويل غزة إلى غيتو مغلق، جميع المسؤوليات والمشكلات الناجمة عن ذلك، ما شكل استنزافًا من رصيد المقاومة، كانت تعوّضه دومًا عبر تصدّيها الناجح للاعتداءات الصهيونية، بل لعل التغيير الذي حدث في "وثيقة حماس"، واقتربت فيه من مشروع حل الدولتين، وأثار ضجةً كبيرة في حينه، كان دافعه الرئيس إظهارها بمظهر الاعتدال، في سعي إلى المحافظة على جانب السلطة فيها، أكان ذلك في غزة أو مشاركتها فيها في الضفة، وغاب عن بالها أن هذا سيعني، في المحصلة، مزيداً من الضغط عليها لانتزاع تنازلاتٍ أكبر، في تكرار للتجربة التي مرّت بها منظمة التحرير الفلسطينية.

للسلطة، مهما كانت، مثالبها. وهي تبتعد في ممارساتها عن مثالياتٍ مفترضة في المقاومة. كما أن إرضاء جميع القطاعات دومًا أمر محال، ومشكلات المجتمعات واحتياجاتها أكثر من أن تُحصى في الظروف العادية، فكيف في ظروف الحصار والتجويع والإغلاق؟ تحتضن الجماهير المقاومة، وتتبرّع لها، وتنفق عليها، لكن السلطة مطالبةٌ بتقديم الخدمات، وحل المشكلات، والفصل بين الناس، وحفظ الأمن، وتوفير الموارد، وهي تلجأ إلى الجباية والضرائب. وفي ظل انعدام الحياة الديمقراطية، وغياب وسائل الرقابة الجماهيرية، يؤدي الانفراد بالسلطة إلى ازدياد أعداد الناقمين وتراكم المشكلات، وهو ما سيأكل حتمًا من رصيد المقاومة.

في الفترة الأخيرة، حققت حركة حماس نجاحات أوسع على صعيد مشاركتها القوى الأخرى،

أثارت وثيقة حماس التي اقتربت فيها من مشروع حل الدولتين ضجةً كبيرة في حينه، وكان دافع الحركة الرئيس إظهارها بمظهر الاعتدال"  تمثل ذلك في غرفة العمليات المشتركة، وفي مسيرات العودة، وفي فرض قواعد اشتباك جديدة. وفي الشتات، نجحت، بالتعاون مع شخصياتٍ مستقلة ووطنية، في تشكيل أطر جماهيرية واسعة، تضم ألوان الطيف السياسي والاجتماعي المختلفة، إلا أنها لم تنجح في قطاع غزة في إشراك أطياف المجتمع الغزّي، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية المختلفة، في إدارة شؤون القطاع.

ما هو مطلوبٌ يتجاوز إجراء عمليات تجميلية لإدارة "حماس" القائمة الآن، فهذا ما عاد كافيًا، ولن يقبله أحد. فمن أجل مواجهة الظروف الصعبة التي تعيشها غزة، ومحاولات ضرب وتحجيم المقاومة فيها، على "حماس" أن تتخلّى عن السلطة في القطاع، بحيث تتشكل إدارة القطاع من فعالياتٍ تمثل شرائح المجتمع المختلفة، وأن تتولى الأجهزة القائمة حاليًا مسؤولية حفظ الأمن، على أن تتلقى تعليماتها من الإدارة الجديدة. في حين تحافظ كتائب عز الدين القسام، وفصائل المقاومة الأخرى، على استقلاليتها، ضمن واجبها المحدّد بتطوير قدراتها، ومواجهة العدو الصهيوني.

هذه الصيغة تعني أن المجتمع الغزّي سيتحمل، بشرائحه كلها، بما فيها "حماس"، مسؤولية إدارة الأوضاع في غزة، كما أنه سيعزّز من المقاومة ودورها. وإن كنا لا نتوقع إنهاء الانقسام الذي نظن أنه ناتج أساسًا من تباين واسع في المشروع السياسي، فقد ينجح هذا الاقتراح على الأقل في إدارة هذا الانقسام، لحل المشكلات المعيشية للشعب، وحشد الجهد وتوحيده، من أجل مواجهة حقيقية لصفقة القرن، ومشاريع تصفية القضية الفلسطينية.

معين الطاهر

 

من نفس القسم دولي