دولي
غزة حيث لا معنى للمستحيل
القلم الفلسطيني
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 17 مارس 2019
في قطاع غزة حيث الكثافة السكانية الأعلى في العالم، والاحتلالات المتعاقبة منذ احتلتها القوات البريطانية عام 1917، والحصار بوتائر مختلفة، والمياه المالحة التي لا تصلح للزراعة فضلا عن الاستخدام البشري، والبحر المغلق المغرق بمياه الصرف الصحي، ونسبة المواليد المباركة، ونسبة البطالة الفلكية، والسكان الذين ثلثاهم لاجئون، لم يشهدوا ما شهده إخوانهم تحت الاحتلال في الضفة الغربية من فرص معيشة فضلا عن الشعوب العربية والشعوب الحرة في غير العالم العربي، هؤلاء الذين كتب عليهم منذ أكثر من قرن أن
في قطاع غزة حيث الكثافة السكانية الأعلى في العالم، والاحتلالات المتعاقبة منذ احتلتها القوات البريطانية عام 1917، والحصار بوتائر مختلفة، والمياه المالحة التي لا تصلح للزراعة فضلا عن الاستخدام البشري، والبحر المغلق المغرق بمياه الصرف الصحي، ونسبة المواليد المباركة، ونسبة البطالة الفلكية، والسكان الذين ثلثاهم لاجئون، لم يشهدوا ما شهده إخوانهم تحت الاحتلال في الضفة الغربية من فرص معيشة فضلا عن الشعوب العربية والشعوب الحرة في غير العالم العربي، هؤلاء الذين كتب عليهم منذ أكثر من قرن أن يعتمدوا على الأنفاق ليعيشوا، صمدوا تحت الحكم العسكري الإنكليزي والحكم العسكري المصري والحكم العسكري الإسرائيلي ثم أضيف له طبقة فلسطينية جعلته ناعماً مع البعض وأكثر خشونة مع الآخرين، هؤلاء الغزيون أنتجوا طاقات فلسطينية فريدة في جميع المجالات فضلاً عن أسطورية تغلبهم على المحن والمؤامرات، ليس في العلم والطب والصناعة فحسب بل خرج منهم أبرز قادة الشعب الفلسطيني ومن كافة التيارات الفكرية والسياسية، وصنعوا أسطورة مقاومة وصمود بعكس كل النظريات التثبيطية، غزة طردت جيش الاحتلال ومستوطنيه في سابقة فلسطينية وأممية، واجتازت أطول فترة حصار كفيلة بإسقاط دول عظمى، وتعرضت لحروب طاحنة، ألقيت عليها قنابل لأيام وشهور لم تصمد تحتها دول كبرى، ولم يعرفها شعب في تاريخ الحروب لو قسمناها على عدد السكان أو الأيام أو المساحة الجغرافية، ورأت أسلحة دمار لم يرها غيرها وبقيت، غزة الفاقدة لحليف من الخارج، ابتليت بعدو أخطر من الداخل، تآمر عليها مع الاحتلال ليكسرها، وتآمر مع كل العالم ليخنقها، ولم ييأس من المؤامرات والخيانات، وظلت غزة عصية على الكسر.
غزة أسطورة الصمود والمقاومة، شكلت وحيا لغيرها من الشعوب، ففيها بدأ الربيع العربي وفيها بدأ الانقلاب عليه بحل الحكومة المنتخبة وتعطيل البرلمان المنتخب وتعيين الفاسدين والمفسدين قادة للشعب الفلسطيني، غزة التي أعطت كل هذه الدروس في الصمود والتحدي ومواجهة المستحيل، تواجه اليوم تحديا على مقاسها، تحديا من نوع جديد، هو تحدي التوازن والاعتدال في فهم حاجات الناس والتجاوب معها وحفظ الأمن وإحباط المؤامرات، وقطع الأيدي الممتدة للعبث، وخرق الآذان المتخابرة مع العدو وفي نفس الوقت، حماية حقوق وحريات الناس، فكما حمت الأرض والعرض، ستحمي الحقوق والحريات، فهي قدوة للشعوب العربية والإسلامية في تحدي الاحتلال والقمع الخارجي والفساد والخيانة الداخليين ويجب أن تكون قدوة في تحقيق حقوق وحريات المواطن الغزي، ولا مستحيل في قانون غزة، ليس مستحيلا أن تواجه كل هذه المؤامرات والمكائد والخيانات وتحمي حقوق الإنسان أيضا، فحجم القمع والقهر الذي تتعرض له الشعوب العربية لا يسمح بأن يحتمل القمع والقهر من أي جهة حتى لو كانت غزة مصدر الإلهام ومحط الآمال والأحلام التي يكنّ لها الجميع الاحترام.
ولا يعجز غزة أن تبتكر منظومة إدارية وطنية ولجانا شعبية تخوّل لها صلاحية الاستماع لمطالب المحتجين، وإشراكها في إدارة شؤون الناس، كما أدارت مسيرات العودة، وفي نفس الوقت تتابع قانونيا كل متخابر مع أعداء الخارج وهم موجودون واتصالاتهم مرصودة ومسجلة ممن يريدون استغلال حاجات الناس لتحقيق خيانتهم، وهنا هذا التحدي الحقيقي الذي يجب أن تجتازه غزة بنجاح وهو الإصغاء للناس وحاجاتهم، والأخذ بالقانون والعدل على يد العابثين.
أطلق صاروخا فجر من غزة لتل أبيب الساعة 9 من مساء 14-3 سيلًا من الأسئلة والتوقعات: فمن أطلق هذه الصواريخ؟ وما هي أهدافه؟ وما سر التوقيت؟ وما هي التداعيات والنتائج، وما دلالات هذا الحادث؟ إن الذي يحدد الرد الإسرائيلي من حيث كيف ومتى، هو التقديرات المعتمدة لدى الجيش والحكومة حول من أطلق الصواريخ وما هي أهدافه؟ فإن كان تصريح الناطق باسم الجيش فإن حماس هي من أطلق الصاروخ، قناعة حقيقية لدى المستوى السياسي والعسكري في إسرائيل، فلن يقتصر الرد على ما تم وأعلنته إسرائيل أنها ضربت 100 هدف حتى ساعات الصباح الباكر من 15-3، وقد يأخذ الرد الإسرائيلي أشكالا أخرى مثل استمرار المماطلة في دفع ثمن التهدئة وتنفيذ عمليات مفاجئة ولكن بعد الانتخابات، فالمصلحة الإسرائيلية ما زالت تقتضي حتى اللحظة عدم الدخول في مواجهة واسعة على الأقل قبل الانتخابات.
أما إذا اقتنعت إسرائيل بما أعلنته وسائل إعلامها من أن حماس أبلغت المصريين أن من أطلق الصواريخ هم نشطاء من حماس تجاوزوا التعليمات وخالفوا القرارات، فقد تكتفي إسرائيل بما ضربته حتى اللحظة، ومن المرجح أن تستفيد من الحادث لإقناع حماس وفصائل المقاومة بالرضا بما قدمته إسرائيل حتى الآن، والذي هو بالطبع أقل من القليل. من غير المتوقع أن تعتبر حكومة اليمين في إسرائيل مما حدث، ومن دلائله العميقة والتي قدمها أصلا المستوى العسكري الأمني فيها والقاضية بأن غزة على وشك الانفجار بسبب سياسات الحصار والخنق الإسرائيلية، وأن من الواجب (التنفيس عن غزة) والتي تعززها سياسة المماطلة التي يستخدمها نتنياهو.
من المرجح أن يشكل حادث إطلاق صاروخي (الفجر 5) موضوعا مركزيا في الانتخابات الإسرائيلية في الأيام القادمة. حيث من المتوقع أن تستغل المعارضة الإسرائيلية هذا الحادث الذهبي بالنسبة لها لإضعاف نتنياهو وزيادة نصيبها من الناخبين الإسرائيليين المتحمسين لضرب غزة، والمحبطين مما يظنونه سياسة أمنية ضعيفة يقودها نتنياهو اتجاه غزة. فمن هم على يمين نتنياهو كالوزير بينت وشاكيد سيدعون وبنجاح أن تصويت مؤيدي اليمين لهم يعني جعل نتنياهو أكثر تشددا، وأما من هم على يساره فسيكتفون بالمزايدات الفارغة، والتي قد تسمح لهم بحصد بعض أصوات الغوغاء في إسرائيل.
صلاح الدين العواودة