دولي

عائلات المقاومين على مهداف الاحتلال

القلم الفلسطيني

لم يكن الاحتلال أخلاقياً يوماً، ولم يدخر وسيلة تنكيل إلا واتبعها على مر سنواته العجاف؛ فقد قتل واقتحم، واعتقل وعذب، وهدم البيوت وهجّر، وأبعد ومنع السفر، وضيق عيش الفلسطينيين بسبب وبدون سبب، وحتى القناع الديموقراطي والقانوني الذي يلبسه كان دائماً يسقط عند الحديث عن الفلسطيني، فهدم البيوت والاعتقال بدون محاكمة (الاعتقال الإداري) والإبعاد ومصادرة الأراضي كانت دائماً صلاحيات مطلقة للقائد العسكري وفقاً لقوانين الانتداب البريطاني الموروثة من حالة الطوارئ فترة الحرب العالمية الثانية، ولكن ما هو الجديد الآن في اعتقال أفراد عائلتي الشهيدين أشرف نعالوة وصالح البرغوثي وهدم منازل العائلتين؟

الجديد هو الاستراتيجية التي تتبعها أجهزة أمن الاحتلال في استئصال المقاومة من جهة وتنمية التنسيق الأمني والتعاون مع السلطة الفلسطينية من جهة أخرى وعزل المقاومين وعائلاتهم عن المجتمع الفلسطيني عموماً لترك هذا المجتمع مخدراً يسير في المسار الذي يرسمه له الاحتلال، وهو (من الورشة إلى الفرشة)، أي من البيت إلى العمل، ومن العمل إلى البيت عبر الطرق المرسومة والحواجز العسكرية والبوابات الإلكترونية والدوارة ليبقى منشغلاً بلقمة عيشه، ولا يرى المستوطنات التي تنهش أرضه، ولا الاحتلال الذي يستولي على حياته ويعيش في وطنه وكأنه عامل أجنبي أتي به من شرق آسيا للعمل عند الكفيل اليهودي المستوطن مقابل لقمته دون حقوق سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، وهو الفلسطيني الجديد الذي يسعى الاحتلال إلى صناعته بالتعاون مع السلطة الفلسطينية وتيار التنسيق الأمني منذ إنهاء انتفاضة الأقصى وقتل الرئيس الفلسطيني، والفرق بين هذا الواقع وما سبقه أن الاحتلال لم يكن في السابق يفرق بين الفلسطينيين في العقاب، فكانت إذا حدثت عملية مقاومة في مدينة الخليل مثلاً أو نابلس أو غزة تغلق المدينة ويفرض منع التجول عليها لعدة أسابيع فتعيش المدينة كلها حالة من التضامن الجبري بتعميم العقاب عليها، وإذا كانت تنطلق عملية من الضفة الغربية أو من قطاع غزة كانت تغلق الضفة والقطاع جميعاً، ويفرض حظر التجوال الذي يدخل المجتمع الفلسطيني كله في مواجهة مع الاحتلال، لكن سياسة الاحتلال التي وضعت مطلع عام 2004 والتي شملت قتل الرئيس الفلسطيني واستبداله بآخر لا يؤمن بالمقاومة ولا بحمل السلاح وهو نص الاستراتيجية التي نشرها مركز دراسات الأمن القومي الإسرائيلي في كانون الثاني من نفس العام، شملت هذه الاستراتيجية عدة نقاط:

1. استبدال القيادة الفلسطينية (عرفات) بقيادة لا تؤمن بـ"العنف".

2. الفصل بين المقاومين وعموم المجتمع الفلسطيني. (قويٌّ على الألم خفيفٌ على المعدة).

3. تعزيز التعاون والتنسيق مع أجهزة الأمن الفلسطينية.

4. إلهاء الفلسطينيين بلقمة العيش من خلال إعطاء عشرات الآلاف من الفلسطينيين تصاريح للعمل في المستوطنات.

5. تعزيز قوة الأجهزة الأمنية الفلسطينية بالسلاح والعتاد والمكافآت.

6. تشجيع الدول المانحة على إقامة مشاريع اقتصادية في الضفة الغربية تلهي الفلسطينيين عن حقوقهم وعن الاحتلال والاستيطان.

لكن ما يهمنا هنا هو النقطة الثانية، والتي يستهدف فيها الاحتلال العائلات المقاومة بمعزلٍ عن باقي المجتمع الفلسطيني، والذي لن يشعر بالقمع المباشر، وسيبقى ملهيّاً في لقمة عيشه وقد يرى الآليات العسكرية والهندسية وهي تقتحم قريته لاعتقال جيرانه وأولاد عمه واغتيال أحدهم وهدم بيتهم فيما يستمر في طريقه إلى العمل وكأن شيئاً لم يحدث، وفي المقابل ولمزيدٍ من الردع والتنكيل لم يعد يكتفي الاحتلال باعتقال المقاوم وحده أو قتله بل مد يده ليطال زوجته وأخته وأمه وأطفاله زيادة على هدم البيت ووسائل التنكيل المعهودة، وهو بذلك ينفذ استراتيجيته التي أسماها جراحية بحيث يستأصل العائلة المقاومة دون المساس بالجسم المحيط المخدّر، وهو ما يفعله بالضبط وما فعله مع عائلتي نعالوة والبرغوثي بينما لا يشعر الناس من حولهم بل وتتعاون الأجهزة الأمنية الفلسطينية التي تلعب دور المخدر والمصل المضاد لتمر العملية بسلام دون أي ردة فعل أو مقاومة أو حتى ألم.

هذه الاستراتيجية تثبت نفسها حتى اليوم رغم الهبات المتتالية التي تحدت كل عدة أشهر ورغم العمليات العسكرية والمقاومة الشعبية بكل ألوانها، فما أن يتفاعل الفلسطينيون مع الاعتداء على المسجد الأقصى أو مع حرق عائلة فلسطينية أو قتل طفل أو أطفال حتى تبدأ مفاعيل التخدير بالعمل فتنتشر الأجهزة الأمنية لضبط الأحداث، ويعلن عن رزمة تصاريح عمل جديدة وعن شحنة أسلحة للأجهزة الأمنية وتتكثف اللقاءات في بيت إيل مع قادة التنسيق الأمني الذين يرون أن عمليات المقاومة تهديد لوجودهم لا للاحتلال، وبينما تصور كاميرات الإعلام العالمي الآليات العسكرية الإسرائيلية وهي تمر من جانب المقاطعة لقتل أو اعتقال أو هدم، يبث التلفزيون الفلسطيني مسلسلاً تركياً أو أغنية عاطفية أو دعاية لمستحضرات تجميل أو مسابقة رقص.!

المشهد متكرر ومؤلم نهاية كل شهر، وأنت ترى المئات من الموظفين تقطع رواتبهم، وينهار بعضهم أمام صدمة الموقف، ويزداد العدد بالآلاف كل شهر، دون أن يرمش جفن للمجرم الذي في وزارة المالية في رام الله، وهو ذاته يخضع كالعبيد لصاحب القرار في المقاطعة.

هذا جزء من الأزمات التي تتكرر كل شهر، يضاف لها الكثير من القرارات والمشكلات الناجمة عن حصار قطاع غزة، وفي النهاية تتحول هذه الأزمات والمشكلات إلى مشكلات مجتمعية تتسبب في استغلال البعض لها وإيقاع مزيد من التعقيدات على المشهد.

وهنا الحديث عن مشكلات ترتبط بدور الجهات الحكومة في مواجهة تدوير الأزمات الذي تقوم به الجهات التي تحاصر قطاع غزة، كما الحال في معبر رفح وسحب الموظفين التابعين لرام الله منه، وتعقيدات السفر، وكذلك مثل أزمة الأدوية ونقصها في المستشفيات، أو الاستيراد والتصدير عبر معبر كرم أبو سالم الذي تسيطر عليه الحكومة في رام الله، وتقوم بتحصيل الضرائب من خلاله، أو فرض ضرائب أو تعليات إضافية على السلع.

قائمة طويلة ناتجة عن الحصار، وخاصة ما تقوم به حكومة عباس في رام الله، لكن ما يعنينا هنا أن الجهات المعنية في غزة، يقع على عاتقها أن تواجه تلك الأزمات بحلول إبداعية أخرى، ووضع مصلحة المواطن في المقدمة؛ فمثلًا في إدارة معبر رفح، هناك ضرورة لوضوح في الإجراءات وتسهيل تسجيل ووصول المواطنين، والاستفادة من التجارب السابقة.

في السياق التجاري ورغم صعوبة الوضع الاقتصادي هناك حاجة لقرارات حاسمة في معالجة ملف الضرائب والجمارك وتوحيدها بشكل يصب في مصلحة المواطن، ومع كل الإجراءات التي يلمس خلالها المواطن تغيرًا فعليًا في مواجهة الأزمات ومن يصنعها، فلا يكفي أن نكشف الفاعل الذي لم يعد مجهولا أو يختبئ هنا أو هناك، بل هو يخرج علنًا جهارًا نهارًا ليقول إنها بيد من يحاصر غزة ويجوعها، بل يقطع الهواء عنها.

صلاح الدين العواودة

 

من نفس القسم دولي