دولي
العيش في دولة "عفواً. ما بنقدر نشغّل فلسطيني"
القلم الفلسطيني
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 06 فيفري 2019
وُلد سالم أحمد عام 1990. نشأ ووالداه وإخوته الخمسة داخل غرفتين، في مخيم برج البراجنة. بعد عام واحد من اتفاقية الطائف، التي لم تلحظ الفلسطينيين إلاّ في مقدّمتها الرافضة للتوطين. فيختبئ خلف هذا الشعار كل الرافضين لإعطاء أي حق للفلسطينيين.
أراد سالم أن يصبح مهندساً ميكانيكيًّا. لو حملق في عام مولده جيداً، لأدرك أنه العام الذي طردت فيه دول الخليج مئات آلاف الفلسطينيين، كان من بينهم جزء كبير من المهندسين، بذريعة انحياز القيادة الفلسطينية الرسمية للعراق يوم غزا الكويت. الخليج الذي كان مقصد أبناء مخيمات لبنان، منذ عرف بحبوحته في السبعينات. بعد عملية الطرد الجماعي بعام، كانت حركة فتح تسرّح حوالي 5000 من عناصرها في لبنان، نتيجة الحصار.
لو قدّر له في عام مولده، أن يزور أطراف المخيم الغربية، لاشتم رائحة البارود المتصاعد من ركام مصانع صامد التسعة، المدمّرة خلال قتال الحلفاء ثم الأشقاء. تلك المصانع التي كان في عداد موظفيها عشرات المهندسين الفلسطينيين.
ربما رأى، أو سمع عن كل ذلك. لكن في بيئات مماثلة، يرحب الإنسان بأي وهم، يظنه أملاً، يحرره من الكمد الذي يفرضه واقعه. عمل الأب والأم والإخوة داخل فرن صغير يملكونه في المخيم، يعتاشون منه، وليتعلّم سالم. هو تكرار لصور قديمة في المخيم تعود للخمسينات، حيث تعمل العائلة ليتعلم أحد أفرادها، فينقذ البقية من واقع الفقر. في منتصف ذلك العقد البعيد، كان يدرس 13 طالباً في الجامعة الأميركية ببيروت. بعضهم ينزل سيراً على الأقدام لمسافة 9 كلم. وآخر يتبادل مع أخيه المعطف الوحيد في البيت.
وقتها كان همّ "المكتب الثاني" محصوراً بالأمن، وكل غاية الملازم بهجت تطبيق ما يراه قانوناً، بمنع التجمعات، وحظر قراءة الصحف في مكان عام، وغير ذلك. وانتظام العمال في أعمالهم، يعني أن الأمن مستتب، وفق رؤيته. فلم يكن ضمن أولوياته منع الفلسطينيين من العمل. جاءت سلطة ما بعد الطائف لترى أن للفلسطيني الحق بامتلاك بندقية، لكن محظوراً عليه امتلاك وظيفة. ولم تكن، بعيد الطائف، قرارات وزراء العمل تتوافق مع رطانة خطابات الأحزاب التي ينتسبون إليها، حول فلسطين. سلطة ما بعد الطائف، بدت وكأن غايتها القهر لا الأمن.
اعتاد سالم على انضباط شديد في حياته. خلال أيام العطل المدرسية، يعاون أهله داخل الفرن، غير مكترث لمناشدات أبيه المتكررة "روح أدرس يابا". ففي الليل متسع لساعات من الدراسة. صارت مكتبته وطنه الجديد. الكل يشير إليه. نال حقه – مؤقتاً- أن يكون مغايراً. وطالما اجتمع غبار الطحين مع نظريات رياضية في كتاب واحد. التحدي بالوصول إلى كلية الهندسة، قسم الميكانيكيا، دفع عطاءه إلى ذروة طاقته.
أبدع في مرحلته الجديدة. رضى كامل بتوافق الأنا والطموح. يشفق على والديه، لكن يمني النفس بحلم بدأ يقع بكفيه. يُنهي دراسته بتفوّق. يحاول التواصل مع عشرات الشركات متسلّحاً بدرجات دراسية متقدّمة. لم تتصالح أذناه مع عبارة سيسمعها عشرات المرات "عفواً. ما بنقدر نشغّل فلسطيني".
تشترط المادة الرابعة، الفقرة الثانية، من قانون نقابة المهندسين اللبنانيين، لكي يحصل الأجنبي على حق مزاولة المهنة "أن تعامل تشريعات بلاده المهندسين اللبنانيين بالمثل". والفلسطيني بلا بلاد مُعترف بها قانونياً، رغم ما وقّع عليه لبنان من مواثيق دولية حول حقوق الإنسان، تلزمه بمعاملة اللاجئين معاملة خاصة. الدستور الفلسطيني الصادر عام 1922 لا يعتبر اللبنانيين أجانب، ولا أي من العرب. ويحق لهم ما يحق لأهل فلسطين.
اتصالاته بالشركات تتواصل، لكن صوته يضعف شيئاً فشيئاً. ولأن الإنسان في أعماقه لا يعتقد بموته الشخصي، كما يقول فرويد، ظل سالم يحاول، وتتكاثر الأسئلة المحرجة من حوله "خير، شو صار معك؟". بقي لديه أمل، أن يسافر إلى الإمارات حيث أقاربه. عرف المخيم الهجرة إلى الخليج لأول مرة عام 1951، حين سافر فايز بيرقجي وسعيد سعيد للتدريس في أول مدرسة ابتدائية تفتتحها قطر. وفي السبعينات كانت الهجرات الكبرى، خصوصاً مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية.
استطاع سالم السفر إلى الإمارات، بتأشيرة زيارة. عمل في شركة يديرها أقاربه. حاول الحصول على تصريح عمل. مرة جديدة كانت الجنسية الفلسطينية حائلاً دون ذلك. محاولات متكررة كانت نتيجتها الفشل. وبعد أكثر من عام، كان الترحيل والعودة إلى لبنان. المعرفة أدّت إلى نتائج عكسية. وبدلاً من أن تخرج الإنسان من توحده، وضعت سالماً في عزلة، قبل أن يحاول التحرر من الوهم. يندم قليلاً على خياراته. على واقعه. على ما استنزف من مال أهله وتعبهم. وأشدّ الأسى أن الحياة مباراة واحدة غير قابلة للإعادة.
عليه أن يقتل الوقت قبل أن يقتله. توجّه للعمل بالفرن مجدداً. عندما عمل به طالباً كان يقرأ في وجوه الناس تعابير التقدير لما يقوم به "هذا المجتهد". اليوم يرى إشارات مختلفة توحي بفشل خيارات هذا الطالب، الذي لم يرَ سوق العمل وانسداده بوجه الفلسطينيين. سالم يمدّ يديه الثقيلتين إلى لوح خشب اعتاده من قبل، وأطفال ينظرون إليه، وكأنهم يتطلّعون إلى مصيرهم بعد مواظبتهم الدراسية. فحين تنفي الدولة اللبنانية حق الفلسطيني في العمل إنما تقتل حقه في التعليم.
سيروّض سالم نفسه على حياة جديدة. دون أن يحسم سؤالاً تبدو إجابته ضرورية: هل يحاول نسيان ما تعلّمه، ويمحو مرحلة عزيزة من ذاكرته، أم يُبقيها حية، لعلّه يحقق ما أراده يوماً؟ هل هو أمل جديد أم وهمٌ لا يريد فراقه؟ لكنه ما زال يحتفظ بكتبه الجامعية، في مكتبته الصغيرة، داخل بيته في المخيم.
أحمد الحاج علي