دولي
عنصرية بني موريس: ليصبح الفلسطينيون نرويجيين
القلم الفلسطيني
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 28 جانفي 2019
تزامن إطلاق المفاوضات العربية ـ الإسرائيلية في مدريد عام 1991، تقريبا، مع ظهور اتجاهات "ما بعد الصهيونية" في إسرائيل، وفي مقدمتها "المؤرخون الجدد"، بوصفها اتجاهاتٍ واعدة لتجاوز الرواية الصهيونية التقليدية، ولتجاوز الهوية الصهيونية، وبناء هوية إسرائيلية جديدة من أجل المستقبل. أقول هذا مع التأكيد أن هذه الاتجاهات لم تكن رئيسيةً في إسرائيل، كان يمكن لها أن تتحوّل إلى اتجاهاتٍ أقوى في المجتمع الإسرائيلي، في حال نجاح العملية السلمية، والوصول إلى حل تاريخي. لم يحصل هذا، بل حصل العكس، ما جعل الظاهرة تتفكّك، وعاد بعض أنبيائها للكفر بها، كما حصل مع بني موريس، وهو من أشهر "المؤرخين الجدد". وهذا هو الجدل الذي دار أخيرا بينه وبين الكاتب والصحافي اليساري جدعون ليفي يشير إلى ما وصل إليه نموذجه (بني موريس)، بالعودة إلى الانحياز للرواية الصهيونية التقليدية، وهي الرواية التي حاول تفكيكها في كتبه، خصوصا كتابه "ولادة مشكلة اللاجئين".
يكتب جدعون ليفي "باحث طرح خيارين، تطهير عرقي أو إبادة شعب"، ردا على "نبي الغضب"، في صحيفة هآرتس (13/1/2019)، ردا على المقابلة التي أجرتها الصحيفة نفسها مع بني موريس، ونشرتها في 11/1/2019، إنه سيبقى شاكرا لبني موريس أنه فتح عينه على النكبة "التي لم يحدثونا عنها" (يقصد كتاب موريس "ولادة مشكلة اللاجئين" الذي صدر قبل ثلاثين عاما تقريبا). ويضيف "يأتي موريس بعد ثلاثين سنة على ذلك ليتنبأ بالنهاية: "هذا المكان سيغرق مثل دولة شرق أوسطية فيها أغلبية عربية.. سيبقى اليهود أقليةً صغيرةً داخل بحر عربي كبير من الفلسطينيين - أقلية مضطهدة أو سيتم ذبحنا".
يعتبر ليفي أن النبوءات الفظيعة عن نهاية الدولة (إسرائيل) ترافقها منذ ولادتها. العرب سيتكاثرون، سيطردون ويذبحون. هذا خدم جيدا الدعاية الصهيونية: أقلية أمام أكثرية، داود إمام جوليات، ينهضون من أجل إفنائنا. في الواقع: حدث العكس. الإسرائيليون تكاثروا، سلبوا، طردوا، قتلوا وأحيانا ذبحوا. ويعتبر ليفي أن موريس يدرك أن حل الدولتين لم يعد قائما، لكنه التي لم يحدثونا عنها"، في إشارة إلى كتابه "ولادة مشكلة اللاجئين"" يلقي كامل التهمة على الفلسطينيين. ويكتب ليفي "من يتهم العرب بعدم النقد الذاتي يظهر كصهيوني نموذجي، صهيوني يتهم العرب دائما بكل شيء".
يعيد ليفي الصراع إلى أصله بقوله إن من يلغي العلاقة بين تنكيل الصهيونية بالفلسطينيين والكراهية التي يكنّونها لإسرائيل لا يخطر بباله أن تغيير أحد جوانب المعادلة يمكن أن يؤدي إلى تغيير الجانب الآخر، ويعتبر أن ادعاءات موريس إن كل فلسطيني يستيقظ في الصباح، ويسأل نفسه: أي يهودي سأذبحه اليوم، وأي يهودي سألقيه في البحر، نوع من الهواية. إذا كان الأمر هكذا، فلا يوجد ما نقوله، ولا من نتحدث معه. هذا الادعاء يحرّر مدرسة الكذب الصهيونية من الذنب، ويحرّر إسرائيل من المسؤولية.
في مقال الرد "في نهاية المطاف، ستكون لنا هنا دولة واحدة" الذي نشرته "هآرتس" (18/ 1) يؤكد موريس الانتقادات التي ساقها ليفي. ويعتبر أن التجمع اليهودي في عام 1948 وقف أمام خيارين، أن يقوم العرب بإبادته، كان انتصار العرب سينتهي بأعمال ذبح ضد اليهود، أو أن اليهود، من أجل الدفاع عن أنفسهم، يطردون العرب، أو على الأقل يمنعون عودة الذين هربوا وطردوا. "اليهود اختاروا ألا يُذبحوا"، حسب موريس، وما حدث ليس "تطهيرا عرقيا" كما كان الحال في البوسنة في التسعينيات. مثل هذا الشيء لم ينفذ. ما حدث كان "صراعا بين شعبين ادّعيا حقهما على قطعة الأرض نفسها".
وبخصوص المستقبل، يكتب موريس أنه ما زال يؤمن بأن "حل الدولتين للشعبين" والتقسيم الجغرافي هو القاعدة الوحيدة لحل يعطي شيئاً من العدل للشعبين. "لكن أنا أؤمن، مثل ليفي، أن هذا الحل غير قابل للتنفيذ الآن. وربما حتى لن يكون قابلاً للتنفيذ في المستقبل بشكل مطلق". وحسب موريس، فإن اتفاق سلام قائما على تقسيم البلاد لا يبدو منطقياً ضمن المعطيات القائمة، وما الذي يقترحه ليفي بدلاً من ذلك؟ "دولة كل مواطنيها"، "دولة ديمقراطية واحدة بين النهر والبحر". هذا يبدو جيداً، لا سيما إذا كنت تجلس في مقهى في باريس أو لندن. لكننا نعيش في غابة الشرق الأوسط. ويسأل موريس: هل الفلسطينيون يشبهون النرويجيين؟ ولأن الفلسطينيين ليسوا نرويجيين فإن حل الدولة الواحدة لليهود والعرب، حسب موريس، هو وصفةٌ للعنف والفوضى التي ستؤدي، في نهاية المطاف، إلى دولةٍ فيها أكثرية عربية وأقلية يهودية مقموعة. إذا أصبحت الدولة ديمقراطية، وإذا كانت فيها أكثرية عربية، فستكون هناك أغلبية ستقرّر طابع الدولة ونشاطها، واليهود سيدفعون إلى الهامش، وبعد ذلك إلى الخارج. إذا عدنا إلى أرض الواقع للحظة، يبدو لي أن ما كان هو ما سيكون: سلطة الاحتلال ستستمر، والعرب سيعانون واليهود أيضاً سيعانون (بشكل أقل بقليل). ويختم موريس "ربما يكون جدعون ليفي محقاً، وهذا يمكن أن يستمر مائة سنة أخرى".
تتضمن أقوال موريس ادعاء تفوّق إسرائيلي عنصري على الفلسطينيين الذين لا يصلحون شركاء في بناء دولة واحدة، وحل الدولتين غير ممكن. موريس، ومن ورائه الأغلبية الإسرائيلية، لا يريد أن يفهم أنك لا تستطيع اختيار عدوك ولا تحديد مواصفته. لذلك، لا يمكن أن تنجز دولةً مع آخر، أو حتى تسويةً معه، من دون أن تعترف بأنه مساو لك في القيمة والحقوق. أما النظرة المتعالية فهي تبرّر قمع الآخر بوصفه أقل قيمة، وبالتالي لا يستحق الحقوق نفسها التي ينالها المتعالي. ما يقوله موريس يعني، ببساطة، أن على أعدائنا (الفلسطينيون) أن يغيّروا أنفسهم، أما نحن الذين نحتلهم فإننا باقون على حالنا، أما أن يصبحوا نرويجيين، أو يختفي الحل إلى الأبد. هذا ما يتصوّره موريس، المفترض أنه معارض للاحتلال، وسُجن بعض الوقت بسبب ذلك. وإذا كان هذا تفكير معارضين للاحتلال، لك أن تتصوّر كيف يفكر المستوطنون أو غلاة اليمين؟ وإذا كان موريس يطلب من الفلسطينيين أن يصبحوا نرويجيين، فإن هؤلاء يريدون منهم الاختفاء من الوجود.
سمير الزبن