دولي
في موت اليسار الفلسطيني
القلم الفلسطيني
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 20 جانفي 2019
دخل اليسار العربي، منذ مطلع التسعينيات، في أزمةٍ مركبةٍ تختلف نوعياً عن التي كان يعيشها ويعترف بها قبل ذلك، فتلك كانت أزمة تشكيل البديل من السلطات القائمة، كما ادّعى اليسار. في ذلك الوقت، سادت لديه القناعة بأنه يصنع المستقبل، ليس مستقبل المنطقة فحسب، بل مستقبل العالم. ومن هذا التفاؤل في صناعة المستقبل، دخل اليسار في التسعينيات أزمة الاضمحلال والموت، فقد تسبب انهيار الاتحاد السوفييتي النموذج المرتجى لليسار (على الرغم من الملاحظات التي كان اليسار الجديد يأخذها على النموذج السوفييتي) بتراجع مصداقية هذه القوى ودورها على المستويين، العالمي والعربي، وبالتالي الفلسطيني الذي كان يعاني أزمةً بنيويةً تتعلق بتشكيل البديل من القيادة "اليمينية" لمنظمة التحرير، والتي تزعمت الحركة الوطنية الفلسطينية في التجربة الحديثة. أما بعد المتغيرات الدولية التي عصفت في عقد التسعينيات المنصرم في المنطقة والعالم، وتزايد وزن القوى الإسلامية، أخذت الأزمة التي يمرّ بها اليسار تدخل في ما يمكن تسميتها "أزمة الاضمحلال"، حيث انكمش هذا اليسار من ناحية الحجم والدور بطريقة متسارعة. وإذا كانت هذه المتغيرات سبباً يفسر جزئياً أزمة اليسار الفلسطيني، فهناك عوامل داخلية فلسطينية تكمل تفسير هذا الاضمحلال إضافة للعوامل الخارجية. ومنذ بدايته، عانى اليسار الفلسطيني من الانقسام، وباءت كل المحاولات التوحيدية لفصائله بالفشل في السبعينيات والثمانينيات، لأسباب متعددة ليس هنا مجال الخوض فيها، وبقي هذا الانقسام الذي ازداد تشرذماً مع الأيام، والذي كان يفسر حينها بفرادة وهمية للتجربة الفلسطينية، بالتنوع والديمقراطية اللذين تعيشهما الحركة الوطنية الفلسطينية.
يمكن تقسيم اليسار الفلسطيني إلى نوعين: الأول، لعب دور مسوّق سياسات قيادة منظمة التحرير (اليمينية) التي لم يكن في استطاعتها تسويقها ضمن إطارها التنظيمي الذي شكلته حركة فتح. ظهر ذلك جلياً في الخلاف بشأن البرنامج المرحلي (برنامج السلطة الوطنية) في منتصف السبعينيات، والذي حملت لواءه الجبهة الديمقراطية، بوصفها الفصيل اليساري الواقعي. الثاني، لعب دور الحالة المتمسّكة بالمبادئ والحقوق التاريخية في وجه التنازلات، ومارس السياسة الاعتراضية على سياسات قيادة منظمة التحرير، وكلما وصلت قيادة المنظمة إلى محطةٍ جديدة، تمسك هذا اليسار بالمحطة السابقة، على قاعدة قطع الطريق على قيادة المنظمة من الاستمرار في طريق التنازلات، ومثلت هذا النوع الجبهةُ الشعبية في زمن جورج حبش.
ارتبط الاتجاهان اليساريان، على الرغم من تناقض مواقفهما بشكل تابع، بقيادة منظمة التحرير، سواءً كان هذا الارتباط تسويقياً أو اعتراضياً، ما جعل قيادة منظمة التحرير الفاعل السياسي الوحيد في الساحة الفلسطينية، وأبقى ممارسات اليسار من موقع رد الفعل على السياسة التي تصنعها ما عرفت في التجربة الفلسطينية بـ "القيادة المتنفذة". فلم تتم صياغة سياسات مستقلة لليسار، تنطلق من واقع الصراع المعقد، والإجابة على أسئلته ومتطلباته، وآليات الصراع مع إسرائيل، وتنظر إليه من مواقعها الفكرية والسياسية، لا الأيديولوجية. وبحكم هذا الانقسام اليساري، تمت صياغة سياسات تنافسية بين أطرافها، وصراعها ليس على قيادة منظمة التحرير، بل على من يشغل الموقع الثاني في الساحة الفلسطينية، بعد حركة فتح، وهو ما زاد من حدّة الانقسام، وأدّى إلى مزيدٍ من التفتت بولادة فصائل يسارية هامشية.
المسألة الأخرى التي غرق فيها اليسار، وأثَّرت سلباً على إمكانية استقطابه قطاعاتٍ جماهيريةً متزايدة، هي الوقوع في الفخ الأيديولوجي، وتحويل الحزب في حالاتٍ كثيرة إلى نادٍ للتثقيف النظري، وهي مهمةٌ في جميع الحالات، تتجاوز مقدرة أي حزب، فمهمة الحزب، في نهاية الأمر، سياسية، وعليه أن يجيب عن هذه التعقيدات السياسية، لا أن يغرق في نقاشاتٍ نظريةٍ بشأن مسائل شائكة، من الصعب الحسم فيها سياسياً، فعلى مدى سنوات طويلة بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان 1982، شغل اليسار الساحة الفلسطينية بالنقاش حول البرجوازية الفلسطينية، وهل بقيت في الموقع الوطني، أم غادرت إلى الموقع اللاوطني، وأصبحت في الموقع الآخر، موقع الأعداء، والمقصود بالبرجوازية هنا قيادة منظمة التحرير. وانشغلت في النقاش حول البنية التنظيمية في كيفية التحول إلى حزب ماركسي ـ لينيني. وعندما أعلنت هذه الأحزاب إنجاز تحولها إلى حزب ماركسي ـ لينيني، كانت الماركسية ـ اللينينية قد سقطت في مركزها، وتبدّدت منظومتها خلال أشهر.
بقي اليسار الفلسطيني تابعا لقيادة منظمة التحرير، من زاوية صناعة الخيارات السياسية، وأسير الوهم الأيديولوجي الماركسي ـ اللينيني، على الرغم من انهيار المنظومة الاشتراكية، وهذا ما نقله من مرحلة الاضمحلال في التسعينيات إلى الموت النهائي في الألفية الجديدة، حيث بات بلا وظيفة، وبلا دور وبلا هدف، فكل ما نشاهده اليوم على الساحة الفلسطينية هو بقايا يسار يعيش على تاريخ انقضى منذ عقود، أو أصواتٌ فرّختها هذه القوى، لا تزيد عن كونها حضوراً في الإعلام، ولا وجود لها على أرض الواقع، وهو ما يعني موت اليسار الفلسطيني كما عرفناه في تجربة الفصائل. ولا يعدو التجمع الديمقراطي الفلسطيني الذي أعلنت عنه بعض فصائل هذا اليسار الشهر المنصرم (ديسمبر/ كانون الأول 2018)، لا يعدو كونه تجمعا للجثث المتفرّقة لهذا اليسار الميت.
ولكن السؤال: هل هناك حاجة إلى اليسار؟ بالتأكيد، فاليسار ليس ترفاً، بل هو هدف ووظيفة تاريخية ملحة، ولكن ليس بالمفهوم السابق لليسار، بل بمفهومٍ جديدٍ، يقطع مع ذلك اليسار الذي مات.
في تجربة الثورات العربية، ومصاعبها وتعثراتها، ظهرت الحاجة الملحة لليسار، بالمعنيين، الاجتماعي والتاريخي، اليسار الذي يعبر عن طموحات شرائح اجتماعية كبيرة، لم تجد تعبيرها في القوى السياسة التي احتلت المشهد السياسي في دول الثورات العربية. شرائح اجتماعية كان لها الدور الكبير في إطاحة السلطات الدكتاتورية من حيث المشاركة والطليعية، من دون أن تكون منتظمة في قوى سياسيةٍ قادرةٍ على حصاد نتاج نضالها. لم يكن الحال أفضل في التجربة الانتخابية الفلسطينية، فقد كانت نتائج قوى اليسار الفلسطيني مخزيةً في كل الانتخابات التي جرت فلسطينياً منذ تأسيس السلطة الفلسطينية، تشريعية أو محلية أو حتى طالبية، حيث حصل اليسار الفلسطيني على نتائج هزيلة، لا تتناسب لا مع ادعائه ولا مع تاريخيه، ما جعلنا نقول إن هذا اليسار غير موجود، ولا يمثل أي قوى اجتماعية، يسار ينتمي إلى ماضٍ لم يعد أحد يرغب به. والحقيقة الفلسطينية الماثلة أمامنا اليوم أن هناك أشخاصا يساريين فلسطينيين مستقلين، وليس هناك قوى يسارية.
سمير الزبن