الثقافي

كمال داود: اهرب من هذه المدينة

مدينة يملكها اللصوص في الليل والأقوياء في النهار

حين أصدر الكاتب الجزائري كمال داود (1970)، مجموعته القصصية "مقدّمة زنجي" عام 2011 (دار "سابين فسبيسر")، لم يأخذ هذا العمل حقّه من الاهتمام خارج وطنه وفرنسا حيث رُشّح لجائزة "غونكور" للقصة.

ولا شك أن النجاح الذي حققته روايته "ميرسو، تحقيق مضاد"، هو الذي دفع دار "أكت سود" الباريسية إلى إعادة نشر المجموعة المذكورة أخيراً في طبعة جيب. مناسبة للتوقف عند هذا العمل اللافت على أكثر من صعيد.

تجدر الإشارة بدايةً إلى أن النصوص الخمسة التي تتألف منها هذه المجموعة ليست قصصاً بالمعنى الكلاسيكي؛ لعدم نسج داود في كل منها حبكة معيّنة، بل شيّدها على شكل شكاوى من قدرية طاغية.

شخصيات هذه القصص عبارة عن أشباح، يفلت قدرهم منهم، لأنه كُتِب سلفاً منذ عدة عقود، خلال استقلال الجزائر. ومذّاك، هرس التاريخ كل شيء، ولم يترك أي مكان للقصص الفردية. كما لو أن المسألة حُسِمت والأوهام تبددت نهائياً قبل الولادة. وكان بإمكان داود أن يكتفي بذلك ويبقى صامتاً مستسلماً لـ"القدرية"، لكنه ليس من هذه الطينة.

عن بلده، يتكلم الكاتب كما عن قصة حبٍّ مخيّبة للأمل، بغضبٍ كامن ينفجر فجأةً. وإذ يكتب، في روايته، قصة العربي المقتول التي أهملها كامو في "الغريب"، يستكشف في قصص "مقدّمة الزنجي" الطريق المسدود الذي يصطدم به أبناء وطنه.

وبالتالي، يحرّك هذه المجموعة ـ وهنا تكمن قوتها ـ شعور بحالة طارئة: يجب العثور على الكلمات لسرد تلك القصة الجماعية (قصة الاستقلال)، أو بالأحرى لمواجهتها، لأنها تشلّ من يتجرأ على ذلك. إذ كيف يمكننا أن نحيا كأفراد في ظلّ هذه القصة كلّية الحضور؟

ولذلك، يستعين داود بمجموعة رواة تائهين، يمرّون تارةً بحالة إثارة وتارةً بحالة اكتئاب؛ لاصطدامهم الثابت بذلك الطريق المسدود، فيضحكون أو يغضبون، لكنهم جميعاً يسخرون ـ عبثاً ـ من الحالة الجماعية التي يتخبّطون فيها.

ففي قصة "صديق أثينا"، نستمع إلى ما يدور في خلد عدّاء جزائري أثناء مشاركته في سباق العشرة آلاف متر خلال الألعاب الأولمبية في أثينا؛ فنراه يتابع الجري حتى بعد تجاوزه خط النهاية وربحه السباق، كهارب لم يعد يصدّق ما كان يثيره في السابق.

وفي قصة "مينوتور 504"، نقرأ حواراً داخلياً طريفاً لسائق سيارة أجرة انخرط أثناء "العشرية السوداء" في الجيش للمدافعة عن عاصمة بلده، فوجدها "أشبه بضابط برتبة عالية قادر على التهام شخصٍ بعينيه"، قبل أن نسمعه ينصح الجالس إلى جواره بتجنّب هذه المدينة التي "يملكها اللصوص في الليل، والأقوياء في النهار".

وفي قصة "جبريل بالكيروسين"، نتعرّف إلى مهندس شيّد طائرة من لا شيء تقريباً، لكن المعجزة لم تثر انتباه أحد، لأن "العربي يبلغ دائماً شهرةً أكبر حين يخطف طائرة منه حين يصنعها!"، ولأن أبناء وطنه، بعدما استمعوا إلى القصة المجيدة لثورتهم، ناموا ولم يصحوا بعد.

أما الكاتب الشاب، الذي يُطلب منه، في قصة "مقدّمة الزنجي"، كتابة مغامرة أحد أبطال الاستقلال، فينتفض في السر ويخون مهمته معتبراً هذا البطل شخصاً رائعاً، لكنه باهتٌ مثل رقم داخل قصيدة، وملاحظاً أن "القاعدة التي تقول إن الأبطال لا يشيخون، بل يموتون شبّاناً، لا تُطبّق عندنا، نحن الشعب الآتي من البعيد جدّاً كي لا يبلغ أي مكان".

باختصار، شخصيات تبدو كل واحدة رهينة مخاوفها المبررة أو الاستيهامية، عالقة في ذهان هذياني مختلَق أو مرضي، ضحية انعدام الأفق والأمان. أصوات تقول الجزائر اليوم بشكلٍ بليغ وتصوّر شعباً يبحث عن مستقبلٍ جديد يفلت منه في كل مرة داخل جغرافيا غير أكيدة تقع بين أسطورة آباء الاستقلال المهيمنة ويأس الواقع اليومي.

 

من نفس القسم الثقافي