الوطن

"التويزة" ... مبدأ تكافل اجتماعي قديم تحيه ظروف اقتصادية صعبة

عادت للظهور بعدما تراجعت بسبب الاعتماد على "ريع الدولة"

التقشف وتجميد المشاريع التنموية يحي "التويزة" في القرى المنسية...

اقتصاديون يدعوون لتثمين "التويزة" للقضاء على الفقر والتهميش

مختصون في علم الاجتماع: التويزة من أسمى معاني التكافل الاجتماعي بين الجزائريين

 

عادت "التويزة" كظاهرة اجتماعية تعبر عن التكافل المجتمعي في الجزائر السنوات الأخيرة في عدد من مناطق الوطن لتعوض تقصير الدولة فالتدهور الاقتصادي الذي شهدناه تسبب في تعطيل العديد من مشاريع التنمية في بلديات وقري منسية وهو ما دفع بأهالي هذه القري لأخذ زمام المبادرة وإنعاش التنمية على مستوي بلدياتهم عبر "التويزة". 

ورغم تراجع مظاهر التكافل والتطوع في المجتمع الجزائري خاصة على مستوى المدن والولايات الكبرى، بسبب شيوع ريع الدولة، إلا أن العديد من القرى والبلدات في مناطق الوطن منها القبائل والصحراء، مازالت متمسكة بعادات وتقاليد تشرك جهود السكان في الأعمال النفعية العامة، خاصة إذا تعلق الأمر بجني محصول ما، أو شق مسالك وطرقات أو بناء مساجد أو حفر عيون الماء، والملاحظ أن التدهور الاقتصادي الذي عرفناه الأربعة سنوات الأخيرة والذي تسبب في تجميد العديد من المشاريع التنموية خاصة في قرى وبلديات منسية أعاد الظاهرة للواجهة بشكل كبير، ما جعل التضامن بين الأفراد ملاذ ا لمواجهة الإكراهات المنفعية أو الخدماتية.

 

التقشف وتجميد المشاريع التنموية يحي "التويزة" في القرى المنسية...

 

وتتمسّك قرى وبلدات عدة في مناطق القبائل والصحراء الجزائرية، كمظهر من مظاهر التكافل الاجتماعي، بعادات إشراك جهود السكان في أعمال المنفعة العامة، رغبة في الحفاظ على نظام "التويزة" الضارب في القِدم. وتُعرف "التويزة" في المجتمع الجزائري كعملية تضامنية تقوم على مبدأ التعاون بين أفراد القرية الواحدة، في إطار تجسيد روح التكافل والعمل الجماعي الذي يقضي على الفرقة. فيبادر أفراد الحي أو القرية إلى إعانة صاحب الحاجة من دون أن يطلب منهم أو يدعوهم إلى ذلك. وتتعدد مظاهر نظام التويزة وتختلف بين منطقة وأخرى في الجزائر، وتتباين من فرد إلى آخر، خصوصاً إذا تعلّق الأمر بجني محصول ما، أو شق مسالك وطرق أو حفر آبار أو بناء مساجد ومساكن، وأشغال نسيج، وغرس أشجار، وإزالة مخلّفات الفيضانات وحسب العارفين بخبايا التويزة، فإن المسألة لا تقتصر على الأنشطة الفلاحية والزراعية أو خلال شهر رمضان الكريم، وإنما تسجل حضورها في مختلف الأعياد والمناسبات الدينية أيضا، والمناسبات الاجتماعية ومساعدة العرسان في الكثير من المتطلبات الضرورية.

 

التويزة تهزم السلطات في تجسيد مشاريع تنموية 

 

وبسبب تجميد العديد من المشاريع العمومية في مختلف الولايات بسبب التقشف أخذت عادة التويزة التي تضرب بجذورها في المجتمع القبائلي، أبعادا تعاونية واسعة، بلغت حد تجسيد مشاريع ذات منفعة عامة، بمختلف المدن والقرى، ومساعدة مرضى ومحتاجين، بعدما كانت بالأمس القريب، مقتصرة على التشارك في الأعمال الفلاحية، كجني الثمار، الحصاد، بناء المساجد وغيرها. حيث بات يقدم المواطنون على تجسيد مشاريع مهمة تدخل في إطار التنمية المحلية والتي من المفروض انها تقع على عاتق الدولة من خلال حملات تضامنية ساهمت في بناء المدارس وتعبيد الطرقات ومد الجسور وتشييد المساكن واستحداث فضاءات ترفيهية وثقافية وعلمية.

 

نماذج عن مشاريع نجحت عن طريق نظام "التويزة" 

 

وكنماذج عن مشاريع نجحت التويزة في إنجازها هناك مشروع إنجاز مسرح على الهواء الطلق في قرية أيت عيسى ببلدية أوقاس الواقعة بالجهة الشرقية لولاية بجاية، ومشروع انجاز جسر طوله 22 مترا بقرية تيغزة بدوار أيت فلكاي ببلدية درقينة بنفس الولاية، في حين أثمر مجهود سكان قرية أقمون ناث اعمر ببلدية تاوريرث إغيل بتوفير منتزه عمومي للقرية، وأضحت قرية تيفردود في أعالي جبال جرجرة أيضا مثلاً حياً على نجاح نظام التويزة الذي حوّلها إلى أنظف قرية وذلك بعدما اعتمدت نظاماً اجتماعياً دقيقاً في تسيير الشأن العام، من دون الحاجة إلى السلطات المحلية،  وفي ولايات أخرى كولاية جيجل تمكن سكان البلدات والقرى المجاورة لوادي جنجن من بناء معبر يمر فوق الوادي أنهي معاناة السكان مع أخطار اجـــتيازه أما في الجنوب الجزائري وفي ولاية غرداية تحديدا تستفيد مختلف القري والبلديات من مشاريع هامة بالاعتماد على التويزة ففي قطاع التربية والتعليم، أنشأت العديد من الجمعيات على مستوى قصور وادي مزاب العشرات من المدارس القرآنية والمعاهد الحرة، يفوق عددها 20 مؤسسة تربوية، فضلا عن مراكز متخصصة لذوي الاحتياجات الخاصة، أبهرت المسؤولين المركزيين والمحليين، وقد بُنيت عن طريق العمل التطوعي المشترك، وبدعم كامل من أموال المحسنين، حيث تضم الآلاف من الأساتذة والطلبة، ذكورا وإناثا، بحيث تخرج منها المئات من الإطارات التي تشغل الآن مناصب في المؤسسات العمومية.

 

اقتصاديون يدعوون لتثمين "التويزة" للقضاء على الفقر والتهميش 

 

وبالنسبة للاقتصاديين فان مفهوم التويزة يتلخص في مصطلح المقاولاتيه الاجتماعية حيث يعتبر خبراء الاقتصاد أن الجزائر بحاجة ماسة لدعم "المقاولاتية الاجتماعية" التي هي تعبير أيضا عن المواطنة الإيجابية واستعداد المجتمع بكل مكوناته وشرائحه إلى أخذ مصيره بيده واستعداده للإسهام في مكافحة الفقر والبطالة والإقصاء والتهميش، بفضل القدرات والطاقات الهائلة الموجودة على المستوى الوطني وبفضل التجارب الناجحة لكفاءات جزائرية أثبتت نجاحها على الصعيد العالمي. يكشف الخبراء أن المقاولة الاجتماعية لها دور هام في تنمية الاقتصاد الوطني، بناء على التجارب الناجحة ليس في أوروبا وأمريكا فقط، بل في العالم مشيرين أن "المقاولاتية الاجتماعية" التي تقوم على تحالفات إيجابية بين السلطات العمومية وقطاع الأعمال والمواطنين، تسمح بمجابهة التحديات التي تواجه المجتمع الجزائري ومنها مكافحة الفقر والبطالة والتهميش والإقصاء، وتمكن من خلق طبقة قوية من المقاولين الصغار في الأوساط الشبابية والنساء والعائلات المحدودة الدخل، وهذا بالانطلاق من تشخيص دقيق للواقع الاجتماعي مع ضرورة الاعتماد على التراكمات التاريخية من تراث ثقافي وأخلاقي كقاعدة لإقامة تنمية مستدامة بإشراك كل شرائح المجتمع على المستوى الوطني.

 

مختصون في علم الاجتماع: التويزة أسمي التكافل الاجتماعي بين الجزائريين

 

من جهتهم فان خبراء علم الاجتماع يرون في التويزة كظاهرة اقتصادية واجتماعية صورة إيجابية عن مجتمع يستطيع التكافل لتحقيق المبتغى، وإضفاء التكاتف في جميع الظروف، حتى أن الخلافات الهامشية يتم تسويتها في حينها من دون اللجوء إلى العدالة، في إطار الوقوف الجماعي لتجاوز كل أشكال الخلافات ويؤكد المختصون أن مظاهر التويزة تحمل الكثير من الصدق وحسن النية، بحكم أن العمل الجماعي يحمل في ثناياه المتعة والراحة وبعث الصفاء في النفوس، لأن الجميع حسبهم لا يهمهم سوى إنهاء العمل بنجاح بعيدا عن أي خلفيات، لتكون مزاياها أكثر نكهة وروحانية حين يتزامن ذلك مع المناسبات الدينية أو في مسائل اجتماعية وإنسانية تفرض التكاتف ويقول مختصون إن التويزة، كظاهرة اجتماعية وقيمة أخلاقية وموروث اجتماعي، فقدت بريقها في العقود الأخيرة، نظرا لعدة عوامل أبرزها طغيان الروح الفردانية، وتطور التكنولوجيا الذي وفر للإنسان ما يمكن أن يستغني به عن جهد الجماعة، خاصة في النشاط الزراعي، لكن رغم ذلك بقيت راسخة في العديد من الربوع الجزائرية، لأن التضامن بين الأفراد هو ملاذهم الوحيد لمواجهة الإكراهات المنفعية أو الخدماتية.

محمد الأمين. ب

 

من نفس القسم الوطن