الثقافي
تفكيك أسطورة نابليون المصرية
شكّل بونابرت بدمويته نموذجاً اقتدى به جنرالات فرنسا في الجزائر
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 28 ديسمبر 2018
لطالما تساءل المؤرّخون حول دوافع الحملة العسكرية على مصر التي قادها نابليون بونابرت عام 1798، أي مباشرةً بعد حملته العسكرية على إيطاليا. عزمه على حرمان إنجلترا من الموارد التي كانت تحصّلها من مستعمراتها، عبر قطع طريق الهند عليها؟ رغبة "حكومة المديرين" (Directoire)، بعد الثورة الفرنسية، في إبعاد جنرالٍ، تهدد شعبيته سلطتها، عن باريس؟ تكمن قيمة كتاب الأميركي جوان كول "بونابرت وجمهورية مصر الفرنسية"، الذي صدرت ترجمته الفرنسية حديثاً عن دار La Découverte، في عدم تيهه في مثل هذه التكهّنات التي شكّلت مصدر متعة حقيقية للمؤرّخين الفرنسيين خلال القرنين الماضيين.
يسرد كول، أستاذ مادة التاريخ في "جامعة ميشيغان"، والباحث المختصّ في العالم الإسلامي الذي اشتهر في انتقاده العنيف حرب جورج وليام بوش على العراق؛ قصة تبدو لنا أقرب إلى الحقيقة حول حملة نابليون المصرية، بعيداً عن الترويج الـ"بونابرتي" الذي ما زال الفرنسيون، وبعض العرب، يخضعون لمفاعيله.
وفعلاً، ما زال المؤرّخون الفرنسيون ينظرون إلى هذه الحملة من جانبها العلمي، وبالتالي من أنها كانت الشرارة الأولى التي أشعلت الحداثة في مصر والعالم العربي. ومع أن الباحث لا ينكر قيمة العمل الذي أدّاه العلماء والكتّاب والرسامون الذين رافقوا بونابرت في هذه الحملة ـ عملٌ صدرت ثماره في كتاب "وصف مصر" الضخم والشهير ـ إلا أنه يعتبر أن كلفة هذا الكتاب كانت عالية جداً إذا ما استحضرنا عدد المصريين (أكثر من 15 ألف) والفرنسيين (سبعة آلاف) الذين لقوا حتفهم من جراء هذه الحملة.ستفبرك الدعاية البونابرتية بجميع الوسائل أسطورة إنجازات نابليون في مصر، بما في ذلك إتلاف جزءٍ من أرشيف الحملة. لكن الحقيقة التي يكشفها كول في كتابه هي أن بونابرت، حين قرر فجأةً العودة إلى باريس في السرّ للاستيلاء على الحُكم، في آب/ أغسطس 1799، تاركاً جيشه في مصر بقيادة الجنرال كليبير، كانت حملته العسكرية قد بدأت تنقلب إلى كارثة. وفي هذا السياق، يبيّن الباحث أن تدمير الأميرال الإنجليزي نلسون الأسطولَ الفرنسي هو الذي أجبر بونابرت على الانكفاء إلى مصر حيث لم يحصد سوى الفشل والهزائم. فإدارته العسكرية لم تكن مجهّزة مثل الفريق العلمي الذي رافق الحملة.
وفعلاً، سيموت الكثير من جنوده بسبب الحرّ أو الجوع أو مرض الطاعون، ما أن يسيروا في اتجاه القاهرة. وبخلاف الإيطاليين الذين سيستقبلون الجيش الفرنسي بحماسة، سيحاربه المصريون منذ بلوغه شواطئ الإسكندرية، كما سينتفض سكان القاهرة عليه عند أول فرصة. وحين يقرر بونابرت توسيع نطاق عملياته بهجومه على سوريا، لإرباك التعزيزات العسكرية التي أرسلها "الباب العالي" إلى مصر، يفشل أيضاً، وينتهي به الأمر طالباً من البحرية الإنجليزية إعادة ما تبّقى من جنوده إلى فرنسا.
وحتى مسألة تعبيره عن إعجابه بنبي الإسلام أمام علماء جامعة الأزهر، يرى كول أنها كانت مجرّد مناورة لكسب ودّهم، وأن بونابرت نظر في الواقع إلى المصريين كشعبٍ "متخلّف".
باختصار، يفقد بونابرت الكثير من "ألقه" في هذا البحث الذي نقله إلى الفرنسية المترجم فيليب بينيار، واستثمر صاحبه فيه، بذكاء وموضوعية، شهادات من تلك الحقبة، بما في ذلك شهادات باللغتين العربية والتركية.
ولعل الإسهام الأكثر فرادة في هذا الكتاب يكمن في إظهاره كيف شكّلت الحملة العسكرية على مصر الخمير لانطلاق مشروع فرنسا الاستعماري في العالم العربي. فالدموية التي تعامل بها مع الذين ثاروا ضده في مصر، عبر التنكيل بهم وحرق منازلهم وقراهم وغلالهم، مهّدت السبيل وشكّلت نموذجاً اقتدى به الجنرال بوغو والماريشل سان أرنو في الجزائر.