الثقافي

خافيير ثيركاس: بحثاً عن المجهول الذي قال "لا"

تمكّن العجوز العاطفيّ متّقد الذاكرة من خداع الكلّ

في بداية عشرينيات القرن الماضي يُولد بطل رواية "المحتال" للكاتب الإسباني خافيير ثيركاس، إذ تضع والدة أنريك ماركو - المصابة بالفُصام - طفلها، في مصح "سان بوي دي يوبريغات" للأمراض النفسيّة بالقرب من برشلونة.

بعد هذا بسنوات، ستلتهم نيران الحرب الأهلية ما يكفي من الأجساد، قبل أن تنطفئ بانتصار فرانكو، ثم تأتي الحرب العالمية الثانية، وتسوق الآلاف إلى معسكرات الاعتقال بترحيب من الفاشيين. تمرّ سنوات أخرى وتنتهي الحرب، ويصير الصمت الذي يعني "نعم" ذراع الحُكم اليُمنى.

في هذه الظروف يبحث ماركو عن لقمة عيشه متوارياً عن عيون الواقع، حتى تسنح الفرصة بداية الثمانينيات، عقب موت فرانكو، فيقدّم نفسه بطلاً كما فعل كثيرون. تبدأ القصة بتلفيقٍ عبقري يخرج فيه ماركو من الحرب الأهلية، محارباً قديماً ومناهضاً للفاشيّة، ومن ثمّ أحد الناجين بأعجوبة من معتقل "فلوسبيرغ" في ألمانيا النازيّة.عمد ثيركاس (1962) في "المحتال" (راندوم هاوس، 2014) إلى أن يحكي قصّة حياة ماركو بشقّيها: الحقيقي والمزيّف. وأكد منذ الفصل الأول وهو يتحدث عن ظروف كتابتها، أن هذه الرواية واقعية خالية تماماً من الفنتازيا. إنها رواية بلا تخيُّلٍ، وإن كان ثمة اختلاق فهو من صنيع الشخصية نفسها، "الخيال يضعه ماركو"، يقول ثيركاس.ماركو إذاً هو المحتال؛ رجلٌ كهل تمكّن في أوائل عقد التسعينيات من خداع الكلّ بلا استثناء، فهو لم يكن يوماً مناضلاً عاش في المنفى ولا معتقلاً في ألمانيا.

بعد الانتقال الديمقراطي في إسبانيا، ينتقل ماركو إلى بيت جديد، ويتزوّج من امرأة أخرى، ويغيّر سيارته، وحتى اسمه. يغدو شخصية مهمّة، وبالكاد تكفيه ساعات النهار، إذ يطوف بين صالات المؤتمرات واستوديوهات الراديو والتلفزيون، ويحرك مشاعر الملايين ببراعة قاصٍّ متمرّس؛ صار العجوز العاطفيّ متّقد الذاكرة يستدرّ الدموع من عيون البرلمانيّين والرؤساء. يترأّس جميعة Amical de Mauthausen التي تجمع في إسبانيا معظم الناجين من المعتقلات النازية وعوائلهم.وفي العام 2005، يُوشك ماركو أن يكون أوّل إسبانيّ يتحدّث من معتقل "ماوتهاوزن" في النمسا أمام رئيس حكومة بلاده (ثاباتيرو) وغيره من كبار السياسيين، لكن مؤرّخاً إسبانياً مغموراً (بينيتو بيرميخو) يستبقه وينزع عن وجهه قناعه الثمين ويكشف كذبه، فتضجّ الصحف الإسبانية والعالمية بالفضيحة واحدةً تلو أخرى. وحين يقرأ الكاتب ثيركاس الخبر، تراوده فكرة الكتابة مُقلقةً ومُخيفةً، ويشعر أن في ماركو شيئاً يخصّه ويخصّ كل واحد منّا على نحو عميق جداً.

تبدو الرواية وكأنها تتحدّث عن سانشيز الكاتب والصحافي الذي كان موالياً للكتائب الفاشيّة، لكن في الحقيقة، ثيركاس كان يتحدّث فيها عن الموتى والأبطال، ويبحث عن الجنديّ المجهول الذي قال "لا" ليُنقذ مثقال ذرّة من القيم المتهالكة. ماركو قال "نعم" طوال حياته، لكن القارئ سيفكّر: هل قال "لا" في النهاية عندما اعترف بأكاذيبه؟

 

من نفس القسم الثقافي