الثقافي

ليلى أبو العلا: صورة للسودان في شبابه

أحداث تتقاطع مع التصادمات التي عاشها البلد عشية الاستقلال

في الأربعينيات، أصيب حسن أبو العِلا (1922 - 1962) بشلل تام، نتيجة تحطُّم فقرات عنقه، عندما قفز إلى الماء، من فوق إحدى صخور شاطئ الإسكندرية. تحطم، تبعاً لذلك، المستقبل المشرق الذي كان مهيأً لطالب كلية فيكتوريا، ابن إحدى أثرى العائلات السودانية، ليرقد عاجزاً، مكتئباً، يتحسّر - شعراً - على حاله، ويسترجع ذكرى أمجاده الرياضيَّة وفتوَّته الضائعة.

كتب حسن الشعرَ بالعامية كمتنفس لحزنه. ورغم الممانعة التي أبدتها أسرته في البداية، كديدن الأسر المحافظة وقتها، إلا أنها سمحت بعدها للمغنين بترديد قصائده المشحونة بحزن كثيف غير معتاد، فكان أن غنى أحمد المصطفى (1922 - 1999) قصيدة "سفري" في عام 1951، وهي الأغنية التي ربما تكون أكثر الأغنيات السودانية حزناً، وأشهرها، قبل أن تتوالى بعدها قصائده العامية والفصيحة، مغناة بصوت أحمد المصطفى، وسيد خليفة (1931 - 2001) وغيرهما، وتصبح في وقت وجيز من أعمدة الغناء السوداني الحديث.حسناً، هذه هي القصة الموجزة التي يكاد يعرفها كل سوداني استمع لأغنية "سفري" أو "ولّى المساء"، إلا أن ليلى أبو العلا (1964)، بَنَتْ عليها معمار روايتها "حارة المغنى"، الصادرة ترجمتها عن الإنجليزية حديثاً لدى "مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي"، متخذة من قصة عمِّها، حسن أبو العِلا، مدخلاً للولوج إلى سيرة وطنٍ في حقبة تحولاتٍ وآمال كبيرة انتهت به، أيضاً، مصاباً بالشلل جرَّاء ما يشبه تلك "القفزة الخاطئة" التي أودت بمستقبل عمِّها.

ورغم أن الرواية (ترجمها بدر الدين الهاشمي)، تستند في الأساس إلى التاريخ العائلي للمؤلفة؛ إلا أنها أوضحت في مقدمتها أنها حوَّرت وأضافت إلى هذا التاريخ، بما يخرج بالرواية من التوثيق الضيّق لحياة حسن أبو العِلا إلى رحابة الخيال. هكذا، استبدلت أسماء الشخصيات الحقيقية بأخرى، وجعلت تاريخ الحادثة التي فجَّرت موهبة حسن تحدث في الخمسينيات من القرن الماضي بدل الأربعينيات.خلال إبحارها في تاريخ أم درمان، والخرطوم، والقاهرة في خمسينيات القرن الماضي، تفحص ليلى أبو العِلا التحولات الحادة في مصائر الشخوص المحيطة بنور أبو زيد (حسن أبو العِلا)، والأثر العاطفي الذي خلفته محاولات التأقلم على الواقع الجديد في حركته المتسارعة. فنجد الأحداث تُبرز التصادمات الثقافية والاجتماعية، بل حتى السياسية، عشية الاستقلال.

يمثل والد نور، محمود أبو زيد، تلك الازدواجية التي ظلت تسم السودان وشخصية السوداني، بين التقليدي والحديث، بين أم درمان والخرطوم، بزواجه من اثنتين: وهيبة السودانية الأمية التقليدية، ونبيلة المصرية الحديثة المتعلمة الراقية، ونزاعه النفسي في اتخاذ أي جانب في صدامهما المستمر. بينما نجد شخصيات أخرى تمثل كلٌّ منها جانباً واحداً. فثريا، حب نور الضائع، التي تمثل النزوع الحديث نحو الحداثة، ينتهي سعيها للخروج من قيود أم درمان التقليدية بالتحرر في النهاية، فأكملت دراستها وسكنت الخرطوم بعيداً عن سيطرة التقاليد الخانقة، بينما يختار أكثر أفراد العائلة البقاء قرب ما ألفوه من إرث في أم درمان رغم توق بعضهم للانفلات.

الرواية المحتشدة بالصور الفلكلورية السودانية الخالصة (رقص العروس، الشلوخ، الدخان، الدلكة)، رسمت صورة السودان في شبابه، وهو يقف عند مفترق الطرق، مليئاً بالأمل، تماماً مثل نور، وكأن المؤلفة وهي تنظر إلى المآل الآن، تحاول لفت الأنظار إلى ذلك "الخطأ البسيط" الذي حدث وقتها، ليصنع جسداً عاجزاً كما نراه اليوم.ومع أن الرواية لم تنشغل بالتعمّق، في قراءة ذهنية مقصودة لـ "جيل الاستقلال" كما اصطلح على تسميته؛ إلا أن بإمكان القارئ التقاط الأجزاء المبعثرة في نسيج الحكي، ليرسم صورة عن نوع المفاهيم التي بنت شخصية أولئك الذين حملوا على عاتقهم مسؤولية إدارة بلد بحجم قارّة، بعد خروج المستعمر. إذ تجعلنا المؤلفة نسترق النظر إلى نظام المعتقدات والمواقف السائد في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين، وأثره على مستقبل الاقتصاد والتعليم والمرأة.

 

من نفس القسم الثقافي