الثقافي

"الجميلات الثلاث": الماضي الذي يحدث الآن

على الرفّ

تقترب الشاعرة والكاتبة الكويتية فوزية شويش السالم، بعد عدد من الروايات والمجموعات الشعرية والمسرحيات، من عالمها الشخصي بلا مواربة، في محاولة لاستكشاف وطن الذاكرة على امتداد رواية "الجميلات الثلاث" (2017) الصادرة عن "دار العين"، ولأن وطن هذه الذاكرة متنوع الجغرافيات والأزمان (يمتد زمنياً على مساحة أكثر من مائة عام، ويضم جغرافياً عدداً من عواصم البلدان العربية وصولاً إلى إسطنبول التركيّة) يتخذ الاستكشاف مسارات متعرّجة تارة، ومسارات متقطّعة تارة أخرى. وكذلك الأمر مع الشخصيات الماثلة على هذا المسرح المتعدّد الطبقات أفقياً وعمودياً، فهي تتحرك في أزمان متنوعة لا رابط بينها سوى الرابط العائلي، وعلى مساحات أمكنة مختلفة لا رابط بينها سوى أنها شهدت حضور هذه الشخصيات، أو ارتبطت بذاكرتها.

تبدأ الرواية برحيل عائلة فوق مياه البسفور عام 1913، عائدة من هويّتها العثمانية (التي اكتسبتها برحيل الجدّ العربي "غطفان" من "حائل" في نجد الجزيرة العربية إلى إسطنبول، للعناية بأفراس السلطان) إلى هويتها العربية، وقد اختلطت جينات أفرادها، وتعدّدت تبعاً لذلك أحاسيسهم بهوياتهم. وتنتهي بعودة الراوِية الحفيدة في زيارة استقصاء لخرائب قصور مدينة "حائل" مع مطلع القرن الحادي والعشرين.

يتجلّى الإحساس بالتعدّد في شخصية الراوية منذ البداية. الراوِية "توناي"، هي الأكثر إحساساً بالعزلة والوحدة، والأكثر، ربما لهذا السبب، هيمنةً على مصائر الشخصيات، وكأنّها عايشتها جيلاً بعد جيل، أو عجنتها وخبزتها حتى وإن كانت هي المولودة بعد مائة عام من رحلة العودة، ولكن هذه البداية لا تعني أنّها أول سلسلة أحداث ستتوالى وصولاً إلى تحوّل ما، أو انقلاب يصل بها إلى ذروة من نوع ما، ثم إلى انفراج، كما يحدث في الروايات التقليدية؛ هذه لوحة أولى ترتسم بمياهها ونوافذ قصورها المطلة على البسفور، ووجوه الممثّلين على ظهر سفينتها، وستتلوها لوحات ذات أمكنة وأزمنة مختلفة، ولا رابط بينها سوى الشخصيات ذاتها، بعد أن كبرت وشبّت وشابت، فهي شخصيات أطفال على مياه البسفور، ثم هي شخصيات شابّة على طرقات بين شمال وجنوب، بين شرق وغرب، أو هي في "حائل" أو "الكويت"، وأخيراً هي شخصيات أصابها الهرم أو توفيت في إسطنبول أو دمشق، أو شخصيات استعادها خيال الراوِية وجاء بها من التاريخ أو من زاوية من زوايا الحاضر القريب.

في أسلوب اللوحات هذا حيويّة تمنح السرد طابعاً شعرياً، أو درامياً غير مباشر. لأن مجرّد القطع والانتقال إلى مشهد مغاير في زمن آخر، والمجاورة بينه وبين مشهد سابق أو سيأتي، يبعث في ذهن القارئ اليَقظ مشهداً ثالثاً هو ليس هذا وذاك، بل نتاج ما يوحي به هذا التقاطع والانتقال. الأمر أشبه بأسلوب استخدام "المونتاج" السينمائي، ذاك الأسلوب المستمد أساساً، حسب أقوال مبتكره الروسي "إيزنشتاين"، من فن تركيب الصور الشعرية، خاصة في الشعر الياباني والصيني.

 

من نفس القسم الثقافي