دولي

بدّك تصير عسكري؟

القلم الفلسطيني

"بدّك تصير مثقف، اشتبك. إذا ما بتشتبك.. لا فيك ولا بثقافتك!"، ربما ستدخل هذه الجملة التي قالها باسل الأعرج، تاريخ الثقافة العربية والعالميّة.

التاريخ يجري مُندفعًا كالنهر، وها نحن وصلنا إلى المصب الواطئ، حيث تتجمع المياه وتركد، وتنمو فوقها الطحالب لولا أنّ باسل حرّك أسئلة كثيرة.

بعد قرنين من دخول الجيش الفرنسي بقيادة نابليون إلى ألمانيا، وطلب نابليون المنتصر حينها مقابلة "غوته" كمرجعيّة ثقافية للشعب الألمانيّ، لمساعدته في التأثير بالشعب الألماني على مهادنة الاحتلال الفرنسي وتقبلّه. وعلى عكس ما توقع، اصطدم نابليون برفض "غوته" الحازم للعب هذا الدور، فقال نابليون محاولًا تعويم (غوته) وإخراجه من ردائه الوطني:

- ليس للعِلم وطن.

- ردّ عليه غوته: ولكن للعالِم وطن!

انتهى اللقاء بين المثقف والإمبراطور، بشهادة لا زالت تتردد إلى اليوم، وقد قالها نابليون بحق غوته: أنت رجلٌ والرّجال قليل!

وعلى النقيض من موقف "غوته" المثقف، الذي له وطن، لم يغفر التاريخ ولا حتى سعد الله ونوس في مسرحيته "منمنمات تاريخية" الموقف السلبي لابن خلدون، الذي زار "تيمورلنك" حاملًا معه نسخة من القرآن وعلبة حلاوة قدمهما له (تيمورلنك الذي بنى مئذنة من جماجم أهل حلب)، وانحنى ابن خلدون أمامه وقبّل يديه مادحًا إيّاه وراجيًا تشريفه بقبول الهدية.

في مشهد آخر، تُسائل إحدى شخصيات المسرحية، ابن خلدون:

- وماذا سيقول عنك التاريخ يا سيدي؟!

- يردّ ابن خلدون:"لا أحد يهتم بالمواقف والأحداث إلا موسوس مثلك..".

وكثرٌ هم الموسوسون الذين يهتمون بالمواقف والأحداث، غير صاحب "منمنمات تاريخية"، ومنهم من هجا العسكري إذا تخاذل تحت مبرر "ماكو أوامر" التي حفرت جرحها العميق في ظهر القضية الفلسطينية، عندما انتصر الجيش العراقيّ على العصابات الصهيونية في معركة جنين، وكانت الطريق ممهدة أمامهم للزحف شمالًا وتحرير مدينة حيفا، إلّا أن الرسالة جاءت من القائد السياسيّ في بغداد إلى القائد العسكري صالح زكي في جنين بأنه "ماكو أوامر" (أي ليس هُناك أوامر للتقدّم)، فتساءل شاعر شعبي "موسوس" ببيتٍ من الشِّعر خلّد فيه اسم ذلك القائد الذي سمع وأطاع: شلون ماكو أوامر يا صالح زكي.. وبنات العرب عند الصهاينة تشتكي!

وعلى النقيض فقد سجّل التاريخ العسكري موقف رئيس أركان الجيش السوري "يوسف العظمة" الذي عارض موافقة ملك سوريا (فيصل) وحكومته وبرلمانه بالاستجابة لإنذار قائد الجيش الفرنسي "غورو" الذي طلب فيه وأمر بحلّ الجيش السوري، وأن تقوم الحكومة السورية باعتقال ومعاقبة كل مواطن يقاوم الاحتلال، إلّا أنّ يوسف العظمة كان له رأي آخر، وواجه بثلاثة آلاف جنديّ معظمهم من المتطوعين، جيش فرنسا العظمى في معركة ميسلون، وواجه قبل ذلك بتمرده وانحيازه لشرفه العسكري كلّ معارضيه، وكلّ من حمل الآلة الحاسبة وقلل الفرق بين الاحتلال السهل، والاحتلال المُكلف للمعتدي، ووضع "العظمة" أمامهم وأمام التاريخ سؤاله الاستنكاري: "وهل تريدون أن يسجِّل التاريخ أنّ فرنسا احتلت دمشق دون قتال؟!".

وأكمل العظمة طريقه التي أراد، بينما لم يترك مخاتير ووجهاء ذلك الزمن للأطفال أن يكملوا طريقهم، وهم يتأهبون بحجارتهم الصغيرة لمناوشة الجيش الإنجليزي أثناء حصار عز الدين القسام في أحراش يعبد، ولو قُدِّر للصغار أن يتمردوا حينها وقاموا بإشغال الجنود، لربما نجا القسام، وتغيّرت معه نتائج ثورة 1936 وما بعدها، ولكنّ التاريخ لا يحتمل الصدف، بل يجري مُندفعًا كالنهر، وها نحن وصلنا إلى المصب الواطئ، حيث تتجمع المياه وتركد، وتنمو فوقها الطحالب، لولا أنّ باسل الأعرج بدوره الثقافيّ والعسكريّ، حرّك بسؤاله للمثقف المشتبك، أسئلة كثيرة من ذات المقاس، قد تُطرح بلسان عسكريّ كيوسف العظمة، أمام الحكومة وجلالة الملك والمخاتير والوجهاء والعقلاء والموظفين والمسلحين بالطاعة العمياء:

- بدّك تصير عسكري؟

اشتبك

إذا ما بتشتبك.. لا بيك ولا بسلاحك!

عنان العجاوي

 

من نفس القسم دولي