دولي

"باسل" الجديد

القلم الفلسطيني

 

 

وأنا أنظر في صور باسل الأعرج، وجدتُ باسلاً آخر غير الذي كنت أراه، ونحن على أية حال لا نرى بعيوننا، وإنما بوعينا المنطبع من تصوراتنا وأفكارنا، وأنا الآن واثق أن الذين عرفوه عن قرب، كلهم مثلي يرونه باسلاً آخر، ويرون ملامح جديدة قد انضافت إلى ملامحه التي نعرفها جيدًا، حتى ونحن نعيد الاستماع لكلامه المسجل، ونستدعي أحاديثه التي جمعتنا به في المقاهي، نجد وترًا جديدًا في صوته، ومعنى آخر ينضاف إلى كلامه. لستُ أدري كيف أقولها، ولكن دعوني أضرب مثلاً؛ بعد استشهاد باسل وفي منتصف ليلنا الفلسطيني، طلب صديق قديم محادثتي، يعرف باسلاً مثلي، ولكنه، أي صديقي القديم، لم يعد مؤمنًا بالأفكار التي نؤمن بها عن المقاومة، ولم يعد يرى فعل المقاومة، ولا حدث الشهادة، بالعيون المتحفّزة في وعينا، ولكني كنت واثقًا وهو يسأل إن كنت مستيقظًا، أنه يريد الحديث عن باسل. اختصر الصديق القديم ما يريده بكلمة واحدة: "باسل حينما استشهد كأنه أخرج لسانه لي، أو كأنه بصق علي". لا يعني ذلك أن هذا الصديق استرجع عينيه القديمتين. بات صديقي باردًا، ويفكر بعقل مجرد، ولكنه لم يكن كذلك إزاء استشهاد باسل، كان حارًّا، حتى حينما أخدتُ الكلام إلى مكان آخر، لأنني لم أكن أدري ما أقول، أرجعني إلى مكاننا الأول، وقال: "دعنا نظل عند باسل. الموضوع ليس نقاشًا وطنيًّا، ولكنه إنساني صرف". وحدهم الذين عرفوا باسل جيدًا، عن قرب، الذين يلسعهم دمه المتوهج، ويبدو لهم حضوره فيهم جارحًا، ويرونه بعيونهم التي منحتهم إياها شهادته فاضحًا، سوف يرون الحدث، وإن لفترة من الزمن، فوق سياسي، وفوق إيديولوجي، وفوق الكلام كلّه عن نظريات المقاومة، والسجالات التي يمكن أن يخلقها هذا الحدث تحديدًا، عن المثقفين والفصائل والسلطة، لأن الصورة الجديدة التي يُطلّ بها باسل بعد شهادته، هي فعلاً فوق ذلك كله، والمعنى الذي فيها، يجعل كل ما سواه، دونه. مثلاً، وجدتني اليوم غير مهتم بمناقشة أطروحة تحاول توظيف باسل لنقد فصائل المقاومة، وهي كما هو شأن أكثر هذه المقاربات، انطباعي، وقصير الذاكرة، وفقير بالمعلومات، وينطلق من التصورات المسبقة، لا من الوقائع، ويعيد توظيف الواقعة لتعزيز تلك الصورة الانطباعية. نظريًّا، كان باسل أكبر من هذا النوع من المقاربات، فقد كان منحازًا لكل فعل أو كيان مقاوم، وشديد الولاء لتجارب شعبنا في المقاومة، ولم تسلبه تجارب أخرى، وقد وصف لي ذات مرّة بعض الذين تذهلهم تجارب الآخرين ويغمطون مقاومة شعبنا، بأنهم "كارهو أنفسهم". لكن بعد حدث الشهادة تحديدًا، يصير للذين عرفوا باسل، كل شيء دون هذا النقاش؛ لأن وجه باسل يقول اليوم شيئًا جديدًا، وهذا الذي يجعل صورته -على الأرجح- تبدو مختلفة، وهو شيء يخصّهم هم، ولكنهم محمولون على ضرورة قوله، لأنه جوهر القصة، وأهم ما في الحكاية. جذرية باسل، التي كانت تبدو لنا نظرية في حينه، جعلت البعض ممن يخالفه في خيارات حياته وشغله وعلاقاته ينفر منه، لكن تأكد بعد ذلك أن باسل كان أكبر من هذه الصغائر، وقد قرأت لأحدهم أخيرًا اعتذارًا عن شيء من هذا القبيل، وتحول المقاومة إلى موضة نظريّة لدى بعض الأوساط الثقافية، كان يحيل أطروحات باسل في ظن بعضنا إليها، ولكن تأكد أن باسل كان أكبر من هذا الاستعراض الذي يعوّض فيه بعضنا عن قعوده ويشرعن فيه حقه في التنظير وتوزيع الأحكام والمواقف، وحريته في الحركة، دون اعتقال أو ملاحقة لفترة طويلة من الزمن، بالرغم من كلامه الجذريّ والواضح والمباشر، كانت توحي لبعضنا بأنه يتحرك في إطار أذاه قليل، ولكن تأكد، وكما قال بالحرف في وصيته إنه يسير إلى حتفه راضيًا مقتنعًا. كل ما قلته في هذه الفقرة من نقد يشملني قبل غيري. حتى نقاشاتنا الفكرية، والسياسية حول الأحداث المحيطة بفلسطين، لم تكن لتثير نزاعًا معه، فهو قابل لأن يتفق معك في كل ذلك، طالما أن موقفك ثابت من فلسطين ومقاومتها. على أي حال، كان جذريًّا؛ نعم، ومباشرًا وواضحًا؛ نعم، ولكن أحدًا لم يتوقع، أن يتحول إلى فعل في الواقع، وحتى حينما اختفى المرة الأولى، تكاثرت نقاشات معارفه عن خطأ الأسلوب، وعن استحالة استنساخ تجربة ثورة الـ 36، أو تساءلوا عن جديّة وحقيقة ما جرى، ولكنه فيما بعد كشف عن تماهيه المدهش مع أفكاره، وبكلمة أخرى كان كلمة صدق تمشي على قدمين. الصدق، والفناء في الفكرة، هو المعنى الذي يشع الآن من وجه

باسل، ويعيد طبع صورته من جديد في وعينا. حينما استشهد باسل، لم يدر في عقلي سوى حقيقة واحدة، أنه كان أصدقنا، كما قلتُ أول الأمر، وأنه كان يؤمن بالمستحيل، كما قال لي صديق أخيرًا. الذين يؤمنون بالمستحيل وحدهم الذين يغيرون التاريخ، والصادقون وحدهم الذين يتركون فينا هذا الأثر.

 

ساري عرابي

من نفس القسم دولي