دولي

مراقب الهزيمة

القلم الفلسطيني

 

من تابع العدوان على قطاع غزة وما رافقه وما تلاه من تداعيات على مؤسسات دولة الاحتلال وعلى المجتمع الإسرائيلي، يلمس بوضوح حجم أثر هذه الحرب على نفسيتهم وعلى سلوكهم وعلى ثقافتهم، ونستطيع الاستنتاج بسهولة بأن هذه الهزيمة قد أثرت فيهم بما يعادل أثر هزيمة عدوان حزيران عام 1967م على العرب والمسلمين. من المؤكد أن الجهات الأمنية والسياسية في دولة الاحتلال لم تسمح إلا بتسريب معلومات قليلة إلى الإعلام، وأنها لن تسمح بتسريب المعلومات الأهم عن النتائج السلبية للعدوان، بل من الممكن أن نتوقع أن بعض ما يسرب في الإعلام قد يكون موجها لجذب اهتمامات المقاومة الفلسطينية أو قيادتها لاستنتاجات خاطئة، ولكن يمكن قراءة مؤشرات الهزيمة من خلال حجم الصراع السياسي وتقاذف الاتهامات والحرب الإعلامية والتنصل من المسؤولية الذي يتم في الساحتين السياسية والأمنية.  نجاح الإدارة الأمنية قاد إلى فشل جيش واستخبارات الاحتلال في إعطاب منظومة القيادة والسيطرة الفلسطينية خلال الحرب إن التراشق الإعلامي والانتهازية السياسية التي ظهرت، في الدولة العبرية بعد نشر مقتطفات من تقرير مراقب الدولة عن العدوان على قطاع غزة، تعبير واضح عن تداعيات صدمة المجتمع والنخب من عجز الجيش أمام المقاومة الفلسطينية والذي لم يستطع التوغل في القطاع خلال خمسين يوما، وانسحب تاركا جنوده خلفه، بينما كان قد هزم عدة جيوش عربية واحتل سيناء والقطاع والضفة والجولان خلال خمس ساعات. تعدّ معركة الأدمغة قبل وخلال وبعد العدوان محور الإنجاز الكبير للمقاومة الفلسطينية، وقد أظهرت الحرب حجم استعداد المقاومة إعدادا وتسليحا وفي مجال المعلومات، فالمقاتل بدون استخبارات قديرة سيكون مثل البط في ساحة التدريب، والمثير أن الصورة انقلبت خلال الحرب، فقد كان الجندي الإسرائيلي -سابقا- يذهب إلى محاربة العرب وكأنه ذاهب إلى نزهة، ولكن ما أظهرته الفيديوهات التي نشرتها المقاومة الفلسطينية في الإعلام أظهرت أن الواقع انقلب في هذه الحرب وبينما كان جنود الاحتلال ذاهبين (للصيد) تم اصطيادهم واحتجاز من نجا منهم في القطاع حتى اليوم.   تعدّ مسألة استخدام الأنفاق في المعركة مع الاحتلال من أهم إنجازات المقاومة الفلسطينية، فقد أصابت المؤسستين الأمنية والعسكرية بالعجز، بينما وقع قادة دولة الاحتلال في حالة من الضياع بسببها، وهذا نابع من نقص المعلومات أساسا لأن الأنفاق منحت المقاومة أفضلية أمنية وعملياتية وحماية طبيعية غير متوفرة فوق الأرض لكل من يريد قتال جيش يتمتع بتفوق جوي مطلق وكثافة نيرانية مساحية متوحشة، ولذلك نلاحظ أخذ الأنفاق حيزا كبيرا من التراشق الإعلامي بين السياسيين والأمنيين، وبينما تحاول بعض التسريبات الحديثة عن معرفتهم لأعدادها ولمكانها، أثبتت مجريات الأحداث على الأرض افتقار هذا الكلام إلى الدقة.  إن انسحاب جيش الاحتلال وتركه لجنوده أسرى في القطاع وعجزه عن تحريرهم-بعد أكثر من ثلاثين شهرا-يعدّ من أكثر المآزق السياسية والأمنية التي تعيشها قيادة دولة الاحتلال، ولعل مشاهد قتال مقاتلي النخبة الفلسطينيين في زيكيم وناحل عوز والشجاعية ورفح وغيرها لا زالت تشكل كابوسا لصناع القرار في دولة الاحتلال. أجزم بأن الأخطر من تقرير مراقب الدولة لم ينشر بعد، وهو قدرة المقاومة الفلسطينية -خلال وبعد الحرب-على خلق قناعات، والتأثير على ثقافة المجتمع الإسرائيلي وتشكيلها لروح الهزيمة والتصارع والتلاوم بين قادته، فقد أظهرت المخرجات الفنية والثقافية تعمق فكرة الرحيل لدى المستوطنين المحيطين بالقطاع، بل أصبح الحديث في إعلام الاحتلال عن ترحيلهم خلال أي حرب قادمة أمرا بديهيا، وأصبح قادة الاحتلال يناقشون إمكانية تحرير وسيطرة المقاومة الفلسطينية على المستوطنات المحيطة بالقطاع وعلى مدينة عسقلان، بعد أن كان يعدّ قادتها أن احتلال أي عاصمة عربية عام 1967م  أمرا في متناول اليد، رافق ذلك حجم انبهار المجتمع الإسرائيلي بأغنية (زلزل أمن إسرائيل) بالعبرية وتحولها إلى أغنية يرقصون على أنغامها!!  ما أُظهر في تقرير مراقب دولة الاحتلال ليس إلا النزر اليسير من أثر هزيمة العدوان على قطاع غزة، وما نراه من تراشق إعلامي صهيوني داخلي يبين بوضوح عمق الجرح المادي والمعنوي الذي أحدثته المقاومة في جسد ووعي المجتمع الإسرائيلي، كما أن تداعيات ومرارات هذه الهزيمة ستستمر وستتصاعد بشكل كبير عندما تجبرهم المقاومة على الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين، ولعل أفضل ما يمكن أن يطلق على هذا التقرير، هو تقرير مراقب الهزيمة!! 

 

 

صلاح حميدة

 

من نفس القسم دولي