دولي

بطل في غزة

القلم الفلسطيني

 

 

لو لم أكنْ فلسطينياً لوددت أن أكونَ فلسطينياً، أكتبُ اليوم بقلم حبر لونه أحمر عن معايشةٍ لواقعِ مئاتِ المرضى في قطاعِ غزة الذين يعانون من أمراضِ الأوعيةِ الدموية وتصلبِ الشرايين وانسدادِها، وكيف أرهقت التحويلاتُ الطبيةُ والرفضُ والقَبولُ، والتصاريحُ والمعابر، هؤلاءِ المرضى الذين لا يجدون في غزةَ مركزاً طبياً مختصاً بجراحةِ الأوعيةِ الدموية يقدّمُ لهم العلاجَ بشكلٍ كاملٍ للحفاظِ على أرواحِهم.

 نشطت وزارةُ الصحةِ الفلسطينيةِ في العامِ 2011 لأجل افتتاحِ عددٍ كبيرٍ من التخصّصاتِ والأقسامِ النوعيةِ في المستشفيات الفلسطينية، وتم التأسيسُ لقسم جراحة القلب وافتتاحِ قسمٍ كبيرٍ في مستشفى غزة الأوروبي، ضمّ طواقمَ طبيةً فلسطينيةً مهرةً ذات خبرات وقدرات بمواصفاتٍ عالمية، وتمّ استدعاءُ أطباءِ فلسطينيين من ألمانيا وروسيا للعملِ في هذا القسمِ الكبيرِ الذي يفتخرُ ويعتزُ به الفلسطينيون، لأنه خلال العامِ الأول والثاني في جراحةِ الأوعيةِ الدمويةِ تم توفيرُ قرابة مليوني دولار، بشكلٍ سنوي مع تقليصِ عددِ التحويلات الطبية إلى خارجِ قطاعِ غزة إلى النصفِ، وبعد ذلك تقلصت التحويلات في مجالِ الأوعية الدموية إلى ربعِ ما كانت عليه في 2011، حيث كان يقدرُ عددُ المرضى الذين يتم تحويلُهم إلى الخارج بـ 600 حالة سنويا، وتبلغُ تكلفةُ "التحويلة الطبية" خارج قطاع غزة ما بين 17 إلى 30 ألف دولار، لإجراءِ عمليةٍ على الشريان الأبهر أو الشريان السباتي أو عمليات على التشوهات الخلقية. تختلف غزة عن سواها، وهنا يبدأ الصدامُ مع واقعِ قطاعِ غزة الصعب الذي يعيشُ قلّةَ الإمكاناتِ في المعداتِ الطبية، ورغما عن ذلك عبر قنوات رابطة جراحي الأوعية الدموية الروسية والأوروبية، تمكن الأطباء من الحصولِ على بعضِ المعداتِ اللازمةِ للبدءِ بالعملِ الكبيرِ وتشغيلِ حجرات عمليات الأوعية الدموية وتمكنوا في نهايةِ عام 2011 من إجراءِ سلسلةٍ من العملياتِ الضخمةِ التي لم يسبقْ لها مثيلٌ في تاريخِ جراحةِ الأوعيةِ الدمويةِ في فلسطين. في يناير 2014 ويناير 2015 تمّ إجراءُ قرابة الـ 50 عمليةً جراحيةً، في حين بلغ عددُ العملياتِ الجراحية في يناير 2016 ثلاثون عمليةً ومعظمها متوسطة وصغرى والحالات الكبرى تم تحويلُها إلى المستشفيات خارجَ قطاعِ غزة لعدمِ توّفرِ المستلزماتِ الطبية (الشرايين المصنعة والخيوط الطبية والأدوات المستخدمة في جراحةِ الأوعيةِ الدموية)، إذ إنّ كثيراً منها يستخدمُ مرة واحدة، ولأولِ مرةٍ في تاريخ فلسطين وحتى دول الجوار، تمّ إجراءُ سلسلةٍ من العمليات الجراحية الدقيقة جداً على القنوات "اللمفاوية" عند مرضى القصور اللمفاوي وبنتائج واضحة ومبهرة. 

في غزة نحن بحاجةٍ إلى مركزٍ طبي مختصٍ بالأوعيةِ الدمويةِ والآن يجري العملُ على تجهيزِ مركزٍ في مستشفى القدس، ولكن، يصعبُ تمويلُه وتشغيلُ طاقمٍ ثابت لعدمِ قدرةِ المستشفى على توفيرِ عقودِ عملٍ للطواقمِ الطبية تدفعُ باتجاه تعزيزِ وجودِ هذا المركزِ في غزة.

في عام 2014 شنّت إسرائيلُ حرباً على السكان في قطاعِ غزة، خلّفت قرابة الـ 2200 شهيد وعشرة آلاف جريح، وكان حينها الدكتور محمد كلوب وطاقمُه يعملُ متنقلا ما بين مستشفيات قطاعِ غزة من شمالِه حتى جنوبِه، متحديا كلَّ الظروفِ المحيطةِ به، لا يكادُ ينامُ ساعةً حتى يستيقظَ على صوتِ مريضٍ بترت أطرافُه نتيجةَ القصفِ وآخر دخلت شظايا قذيفة دبابة إلى رقبتِه. كان ينامُ ومشرطُه في يدِه، لم يعرفْ طعما للنومِ ولا للأكلِ خلال الـ 51 يوماً، يحدثني ويفيضُ دمعاً من عينِه: لقد أنقذت مئاتِ المصابين من براثين الموت، إلا أنّني لم أتمكنْ من إنقاذِ روح أختي التي استشهدت أمام عيني، جراءَ إصابتِها بقذيفةٍ بترت ساقيها من الأعلى "إنها إرادةُ الله" تلك القذيفةُ اللعينةُ قسمت براءة طفلها "إبراهيم" إلى نصفين. وعلى الرغم من ذلك، بقي كلوب صامداً يعملُ بلا مللٍ، لم يكنْ لديه وقتٌ للبكاءِ على أختِهِ وابنِها، لأنّ المصابَ شعبٌ بأكملِه، وحين انتهت الحرب ووضعت أوزارها، بدأ العمل من جديد مع المرضى الذين احتاجوا لعملياتٍ أخرى، لاستكمالِ شفائِهم، وفي احتفالٍ مهيب نظمته وزارةُ الصحةِ الفلسطينيةِ بعد الحربِ، كرّمت الدكتور الجراح البروفسور كلوب، وأهدته درعَ "بطل الحرب". 

يقول الدكتور كلوب "أعطوني مركزاً طبياً مختصاً بجراحةِ الأوعيةِ الدمويةِ في قطاعِ غزة، وحوّلوا الحالات المرضية في الضفةِ الغربيةِ والشرقِ الأوسطِ إلى قطاعِ غزة "المحاصر"، كي تجرى لهم العمليات الجراحية على يدِ طاقمٍ طبي فلسطيني برعَ في جراحةِ الشرايين والأوعيةِ الدموية".

 

 

 

أشرف أبو خصيوان 

من نفس القسم دولي